icon
التغطية الحية

الروائية السورية يارا وهبي: نحن أصحاب قضية حرية وأكثر

2023.08.06 | 13:21 دمشق

يارا وهبي
+A
حجم الخط
-A

ربما كانت الفنون بأنواعها هي الجهة التي نهرب إليها نحن السوريين كي نحاول إنقاذ ما تبقى بداخلنا من أمل، وربما كان الأدب من أكثر الجهات التي سلكناها في هروبنا هذا، وذلك لما للكلمة من قدر على حمل ما لا يحتمل، ومن قدرة على حماية تاريخ ثورتنا النبيلة وتغريبتنا القسرية من الذوبان والتلاشي.

الروائية والصحفية السورية يارا وهبي، أحد الأصوات التي وثقت من خلال الصحافة أولا، ومن خلال الرواية ثانيا، وجعنا وقهرنا وحجم التشرد الذي فرض علينا، مثلما وثقت أيضا عدالة مطالبنا التي صرخنا يوما من أجلها، والتي متنا كثيرا قبل أن نحققها.

رواية يارا الأولى "وشمس أطلت على ديارنا البعيدة"، الصادرة عن دار ميسلون قبل أكثر من عام، كان مفاجئاً أن تأتي بهذا الحجم من الفنية والحرفية وبهذه اللغة الشاعرية التي تشد القارئ من قلبه. لأجل هذه الرواية وما ستنجزه يارا لاحقاً، كان لموقع تلفزيون سوريا هذا الحوار معها.

  • هل نكتب كي نشفى، أم كي نجعل الحكاية تشفى من التحوير والتزييف؟ أي هل نكتب انتصارا لذواتنا المتعبة، أم انتصارا للحقيقة؟

من أجل كل هذا، وأضيف نحن نكتب من أجل المستقبل، وكما كُتب على غلاف راويتي، من أجل الأطفال السوريين الذين ولدوا خارج أسوار المدينة ليعرفوا يوماً لماذا ولدوا خارج أسوار المدينة، كما أننا نكتب أيضا من أجل الحكاية نفسها، لأنها تستحق أن تروى.

  • كُتب المنفى والحنين على الفلسطيني، ثم على العراقي، والسوري. كُتب على أهل أقدم وأعرق مدن الأرض أن يُهجروا منها إلى بلاد الله الضيقة. ما الذي يفعله بنا المنفى؟ وكيف نتحايل على عقارب ساعاته التي "تعيد دائمًا الزمن إلى أوله" كما تقول الدكتورة باهرة عبد اللطيف؟

سأتحدث عن تجربتي في ألمانيا، ألمانيا دفعتني للنظر إلى داخلي، ربما شعرت بضيق البلاد الواسعة فنظرت إلى داخلي فوجدته واسعاً، فبقدر ما يبعدك المنفى عن وطنك بقدر ما يقربك من نفسك، من وطنك الداخلي، ولهذا أسبابه ففي المنفى تبدأ رحلة البحث عن الهوية، عن الهوية النفسية، الهوية الإبداعية، وربما يبدأ التركيز على الحلم القديم الذي طالما راودك.

  • وأنت من الصحفيات السوريات اللواتي حاولن مرارا أن يخبرن عن حقيقية ما حصل لنا نحن السورين فقط لأننا حلمنا بوطن معافى؛ هل تعتقدين أن العالم لا يزال قادراً على سماع حكاياتنا؟

سنجبر العالم على سماعنا، سنجعل من حكايتنا المحقة أسطوانة ممتعة لن يمل الناس من سمعها، سوف نصيغها بأشكال فنية مختلفة ونعيد طرحها، لتثير الفضول دوماً من حولها.

 سنعيد ونكرر حقيقة ما حدث في كل منبر وفي كل مساحة حرية متاحة وفي كل مناسبة، لن ننسى ما حصل معنا ولن نجعل العالم ينسى، نحن أصحاب قضية محقة، قضية حرية وأكثر.

وإن تأخّر انتصار ثورتنا فلن نتقاعس نحن في قول الحقيقة وهذا يحمل السوريين خاصة في الخارج مسؤولية حقيقية وكبيرة في الحفاظ على القضية حية وماثلة.

 قد يمل الغرب من الأخبار والصور ولكنه لن يمل من الموسيقا والكتب والروايات والمسرح والأغاني واللوحات التي يعبر السوريين من خلالها جميعها عن ثورة، ثورة محقة، وإن أصابنا اليأس نسينا العالم حينها تصبح حكايتنا وكل ما يلفها ماضي ممل أو جزء من ذكريات منسية لا يريد أحداً تذكرها.

  • بأية لغة تعتقدين أنه كان علينا، نحن السوريين، أن نترجم أحلامنا وأوجاعنا كي يفهمها العالم؟

هناك شقان للإجابة إذا كنا نعني لغة الكلام، فكل اللغات متاحة لنا، انتشر السوريين بعد الثورة في كل إرجاء العالم ولم يتوانَ سوري واحد في أميركا أو ألمانيا أو إسبانيا أو فرنسا عن نقل حقيقة ما جرى وهذا إن لم يؤثر على سياسات الحكومات الأوروبية فقد أثر على الشعوب حتماً.

لا يمكن فصل الراوية عن مسارها التاريخي، وخاصة إذا كُتبت لتدون أحداثاً تاريخية معينة، أو لتنقل حقيقة في سياق زمني معين، وهنا يأتي دور الكاتب.

 

استطاع السوريون في السنوات العشر الأخيرة من نقل الألم والحلم إلى شعوب الغرب، وحصلت القضية السورية على دعم من الشعوب الأوربية بشكل عام وتعاطف الكثيرين ورأينا الكثير من المبادرات الايجابية التي قدمت في هذا الإطار.

الشق الأخر إذا كنا نتحدث عن اللغة بمعنى الوسيلة أو الإطار الذي علينا في اطاره ترجمة الألم والأمل والتجربة برمتها، فلا يوجد أطار أو وسيلة أصدق وأفضل من الفن.

  • تتميز روايتكِ بالذكاء والجرأة والسلاسة وتقديم ما تريدين بطريقة شفافة، وعميقة وشاعرية، وبالقليل من المباشرة، هل تعتقدين أن بعض الاسهاب في المباشرة يقتل متعة السرد، أم أن السرد بحد ذاته يحمل في تكوينه بعض المباشرة؟

"وشمس أطلت على ديارنا الغريبة" هي تجربتي الأولى في عالم الرواية، فأنا صحفية بخبرة عمل تصل إلى عشر سنوات، وربما أن خبرة العمل الصحفي ألقت بظلالها على العمل، لكني لا أعتقد أن المباشرة أحياناً قد أفقدت الرواية متعتها وسلاستها.

  • لقد قضيتِ وقتا طويلا في ألمانيا، وبالرغم من كل حكاياتنا وصور قهرنا وموتنا، ومن وجود سوريين مثلك حملوا هذه الثورة في أوروبا وحاولوا بكل ما يمتلكون أن ينقلوا حقيقتها، لماذا خذلنا العالم وهزمنا؟

العالم في السنوات العشر الاخيرة مر بتطورات كبيرة على جميع الأصعدة، الأوربيون أنفسهم يظهرون وكأنهم أصيبوا بالخيبة مما فعله ممثلوهم السياسيون، وخاصة في بداية الحراك السوري.

ثم أتت موجة اللجوء السوري في ألمانيا وغيرها، فجعلت الأمر يغير المعادلة، بدا الأمر وكأنه في سوريا حرب والناس تفر منها وعلينا تقديم الحماية لهم، وكما ذكرت في روايتي تحولت صرخة حرية إلى محطة لجوء. وبالرغم من أهمية احتواء السوريين في ألمانيا وأوروبا ومنحهم الحماية التي يحتاجونها، إلا أن هذا أعطى مهدئاً للأوروبيين وكأن لسان حالهم يقول: لقد فعلنا ما في وسعنا.

ثم جاءت أزمات تخص أوروبا نفسها ومنها كارثة الكورونا التي جعلت ترتيب القضية السورية يتراجع، والآن الحرب في أوكرانيا التي تثير مخاوف الألمان.

لكني أرى أن الطريق تجاه تحقيق حلمنا ما يزال طويلاً ومع هذا علينا التمسك به قبل أن نطالب أي جهة بالتعاطف معنا أو تقديم الدعم لنا، الحلم هو حلمنا ومشروع بناء الديمقراطية هو مشروعنا وعلينا الدفاع عنه أولا كي يتبناه الأخر. ومن جهة أخرى قضيتنا هي قضيتنا نحن، بقدر تمسكنا بها وعملنا من أجلها بقدر استمراراها حية في الضمير الإنساني وبقدر تخلينا عنها بقدر ما سيتخلى عنها الآخرون، لا يمكن أن نطالب الأخر بالالتزام بقضية ليست قضيته ولا يمكن التعويل على الأوروبي قبل التعويل على السوري نفسه.

  • هل يمكن أن نراهن يوما على الشعوب الأوروبية برأيك؟

كما ذكرت سابقاً، يمكن أن نراهن على السوري نفسه، على السوري بعد أن يتعافى، وهو قادر على التعافي. ثم على الضمير الإنساني الجمعي وعلى الزمن وقوة الثبات والالتزام.

  • عملتِ مع اللاجئين السوريين في ألمانيا، ومع حكاياتهم التي استمدت روايتك جزءا منها، هل ترين أن الاندماج كثقافة هو معادل حقيقي للقدرة على النجاة، لأناس جاؤوا وكلهم مصابون بعقدة ما بعد الصدمة التي شكلتها الحرب؟

أولاً الاندماج لا يساعد على النجاة ولكنه يساعد على التعافي أو الصحوة أو على التعلم من تجارب الأخرين من أجل مرحلة لاحقة، مرحلة لاحقة في سوريا ربما لن يمكننا العمر من مشاهدتها أو المشاركة بها ولكنها ستكون من صنع الأبناء. مرحلة البناء واعادة المكانة للإنسان السوري.

ثانياً عندما نتحدث عن الاندماج فنحن نتحدث عن مستويات مختلفة ومتداخلة من العملية، وفي البداية دعينا نقول إن الاندماج هو عملية طويلة تتطلب استعداد الطرفين لأقول هنا ونحن نتحدث عن ألمانيا، استعداد الألمان لقبول الأخر واستعداد السوريين للانفتاح ايضاً على الأخر.

الاندماج يحدث على عدة أجيال ومراحل، فلا يمكن أن نتوقع من سوري الذي عاش ما عاش في سوريا وفي البحر، أن يندمج كابنه أو حفيده. الأمر يحتاج إلى وقت طويل قبل الحكم عليه، وهذا أمر اختبرته شعوب قبلنا والألمان يعلمون من التجربة أن الاندماج يحتاج إلى أجيال.

  • هل الرواية برأيك هي حامل حقيقي حي للتاريخ يجعله من لحم ودم، أم أنها قطعة مكثفة من الحياة؟

 هي الاثنان معاً، فلا يمكن فصل الراوية عن مسارها التاريخي، وخاصة إذا كانت الرواية نفسها كتبت لتدون أحداثاً تاريخية معينة، أو لتنقل حقيقة في سياق زمني معين، ولا يمكن تحويل الرواية إلى بحث تاريخي وهنا يأتي دور الكاتب للإمساك بطرفي المعادلة بشكل متوازن ودقيق.

  • إلى أي مدى برأيك يمكن للرواية التي نكتبها والتي تتناول مرحلة تاريخية ما، أن تتماسك وأن تكون موضوعية، وهي مقسمة بين الواقع والتخيل؟، وكيف تبقى الرواية طازجة ورشيقة على الرغم من جفاف التاريخ؟

الرواية في هذه الحالة يجب أن تكون كالرقص، ففعل الرقص بقدر ما هو واقعي وحقيقي بقدر ما يحمل من المشاعر والأفكار.

الرواية يجب أن تكون كالموسيقا، لا تموت، وكلما عزفت أحيت من جديد. وعليها أيضاً أن تحمل سراً وحباً لا يموت كي نحيي التاريخ، فإذا كانت القصص والأحداث التاريخية تتعرض للعطب أو الجفاف فالقصص العاطفية رطبة وتمتع بالحياة.

  • يارا وهبي هي ابنة بيت عرف الفن والإبداع في كل شخصياته ابتداء من الأم ومرورا بالأخ الكبير الفنان رافي وهبي، كيف أثر ذلك في وعي يارا وفي كتابتها؟

بالتأكيد كان لأمي إسعاف وهبي الأثر الكبير على تكويني النفسي، إسعاف وهبي التي أصريت على كتابة اسمها على غلاف روايتي مرفقاً باسمي، لاكسر تابو من تابوهات الانتماء، فانا في العمق لا أشعر إلا بالانتماء إلى روحها وعقلها الذي سبق عصرها وسبق محيطها الضيق.

هي المرأة التي علمتني كسر التابو والمعروف والمتداول، هي المرأة الشجاعة التي زرعت في نفسي روح التمرد، وكان وجود رافي دوماً في حياتي هو السائد الأساسي لهذه الروح، فهما الاثنان كانا الداعم الأساسي لجميع خياراتي المهنية والشخصية على حد سواء، وإذا كنت أريد ان أصنع لهما تشبيهاً يليق بهما فسوف أقول ماما من جعلت العاصفة تهب ورافي من صنع شراعاً للسفينة وأنا الابنة الصغيرة التي ابحرت.

  • هل تعتقدين أن الحرية التي نجدها الآن في تغريبتنا الإجبارية في هذه البلاد الغريبة عن لهاثنا ولغتنا وآثار أقدامنا، هي سجن آخر للروح، سجن الغربة ذو السماء المفتوحة؟

إن جميع السوريين في داخل سوريا وخارجها يعانون شعور الحبس، فالسوري في الداخل يريد أن يخرج ويشعر أنه في سجن حقيقي والسوري في الخارج العاجز عن العودة يشعر من جهة أخرى بالسجن، طبعاً سجن من نوع أخر. لا يمكن مقارنته ولا في أي حال من الأحوال بالسجن السوري الكبير، سجن الديكتاتورية.

من جهة أخرى لا شك أن كل مغترب مكروب، وكل مهاجر مسجون، بسجن الألم ولكن هذا الشعور ليس حكراً على السوريين المهاجرين أو اللاجئين في أوروبا، فعندما هرب الألمان إلى أميركا خلال الحرب العالمية الثانية، أدمى الفراق قلوبهم، الأمر لا يتعلق بالحرية المعطى في البلد المضيف، ولا يتعلق بالميزات التي يمكن أن يقدمها الوطن الجديد، الأمر يتعلق بالخراب الذي حدث في الوطن الأصلي وغير من شكل الخريطة، يتعلق بألم عدم القدرة على العودة.

وكأن حالنا يقول كل أبواب البلدان مفتوحة لك أيها السوري الذي تعيش في أوروبا إلا باب وطنك مغلق بأبواب الخوف ورعب الملاحقة الامنية، كل الأبواب مفتوحة إلا باب منزلك مغلق إلى أجل غير معلوم، هذا الشعور بالألم والحرمان هو الذي يجعلنا نشعر بالسجن هنا في أوروبا.

قطع الحبل السري مع الوطن وربما للأبد يجعل السوريين يشعرون بالعجز بألم مضاعف وليس هناك أشد ألما من ألم السجن، لذا نعبر دوماً عن هذا الضيق بالقول السجن. من جهة أخرى، فإن الحرية التي يتمتع بها السوري بحكم أن الحياة هنا تحكمها أنظمة ديمقراطية، تزيد من أسى السوري الذي كان يحلم يوماً أن يتمتع بهذه الحرية في داخل حدود وطنه.

  • بعد كل الخراب الذي عايشناه في بلادنا وقلوبنا، هل ترين بأننا ما نزال قادرين على إنتاج أدب غير محروق، أدب ينقذ الجمال من كل البشاعة التي تحيط به، ولا يلذع القارئ؟

هنا أستطيع الحديث عن تجربتي فأنا منذ البداية أردت أن أكتب رواية عن الحرب والألم والجراح دون أن تخرج من بين صفحاتها رائحة القنابل ولا تنزف صفحاتها دماً، وأعتقد أنه في مرحلة لاحقة سيتم إنتاج أدب مهجر جديد، وسيكون على سوية عالية، يستطيع أن يبني جسوراً جديدة داخل روح السوري وينهض به.

  • ختاما، لقد وقعت روايتك باسم "يارا إسعاف وهبي"، وإسعاف هو اسم والدتك الراحلة، وهذه بادرة ربما تحسب لك، في عالم تسود فيه الذكورية من خلال تمجيد الأب. هل الأمر له علاقة برغبتك في انتصار الأنوثة العربية المقموعة؟ أم بسبب علاقتك الخاصة مع والدتك الراحلة؟

إذا كان لي هنا أن أضيف شيئاً، فسأقول كل ما سوف أنجزه في حياتي المهنية سأوقعه باسم يارا إسعاف وهبي، هي التي كان لها مشروع كتابة رائع لكنها توفت قبل أن يرى مشروعها النور. عاهدت نفسي أن أجعل اسمها يرى النور من خلال ما سأقدم، فأنا مؤمنة بأنني لن أصل إلى أي مكان جميل في هذه الحياة إلا بضوء محبتها وتميز تفكيرها وتفرد شخصيتها.