الرهان الخاسر

2020.11.09 | 23:19 دمشق

tramb.jpg
+A
حجم الخط
-A

كابوس مزعج أمضى أربع سنوات جاثماً على صدر العالم، دخل هذا الأسبوع في طور الزوال ولن تنقذه إلا معجزة. لقد خسر دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية. وقد شغلت تفاصيل الاقتراع والانتظار العالم كله عموماً والسوريين خصوصاً. أما السوريون، فإن قسما لا بأس بهم من نخبهم المهتمة بالمسار السياسي الأميركي وانعكاساته على إدارة الملف السوري المستعصي منذ سنوات، قد وقع في فخ "الإعجاب" بإدارة ترامب للشأن السوري مركزين على ثلاث نقاط أساسية أولها، الكلمات النابية التي خرجت على لسانه في وصف السلطة القائمة في دمشق، وثانيها، أنه أمر وتابع عملية قتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني الذي عاث وميليشياته قتلاً وترويعاً في سوريا، وثالث النقاط وآخرها، هو دور ترامب في صدور قانون قيصر وتطبيقه.

وبعيداً عن مناقشة مصداقية ما تقدم وفعاليته من وجهة نظر المتحمسين، إلا أنه من الضروري التوقف عند قضية يتبناها المنطق ويبتعد بالذات البشرية، إن تمكن منها، عن اعتماد تغليب المصلحة الآنية والبدائية والمباشرة، مهما كانت محصورة بالتفكير الرغبوي وغير واضحة البتة وشديدة الضبابية وقابلة للنقاش حتماً، وحتى للنقض غالباً، بدلاً عن المصلحة الإنسانية الشاملة والتي في حال القبول بها، حتى دون السعي إليها، فهي تنعكس إيجاباً على عموم الناس.

وحتى لا يبدو الكلام كدرس أخلاقي أو كتحليل طوباوي، ودون التوقف عند التفاصيل، إلا أن الكرة الأرضية، ودون مبالغة تذكر، عاشت أشهراً من الرعب الحقيقي والترقب القلق والإحباط المتنامي، رغم كل الكوابح المؤسساتية المتوفرة أميركياً. كما أن طغاة العالم كانوا سعداء بأداء رئيس لو تمكن من مجاراتهم ومحاكاة أدوارهم متخلصاً من القيود المترسخة في الفضاء السياسي الأميركي، لما تردد للحظة.

وفي موازاة "التخريب" الداخلي الذي ساهمت سياساته الصحية والاقتصادية والتمييزية في ترسيخه، على الرغم من أن بعض الأرقام قد تحلو لبعض الاقتصاديين الذين يعتبرون بأن ازدهاراً حلّ بالبلاد أثناء حكمه، ولا يهم إن كان على حساب الطبقات الفقيرة والمتوسطة، كما لا يهم إن كان على حساب البيئة والصحة.

انسحاب من اليونيسكو، ومن اتفاقية باريس للمناخ، ومن منظمة الصحة العالمية، ووقف دعم الأونروا، وسعي دائم للإمعان في تحطيم المنظمات الأممية واستغلال ضعفها البنيوي لتعزيز الفردانية في العلاقات الدولية. لم يكف ما سبق لترك انطباع كافٍ لدى بعض المعجبين بترامب بسلبية هذا الأداء، فهو قد تقرّب من زعيم كوريا الشمالية بعد أن وصل إلى درجة إطلاق العنان لحرب نووية مجنونة معه. كما دعم كل الثورات المضادة في العالم العربي وسهر على تنفيذ تطبيع كامل لعلاقات بعض العرب مع إسرائيل. قائمة لا تنتهي من "الإنجازات" السياسية تُضاف إلى معاداة ممنهجة للإعلام واعتماد هزلي على التغريد في وسائل التواصل للتعريف بقرارات سياسية واقتصادية مصيرية.

كل ما تقدّم مهم وخطير ولا يترك مجالاً لراغبٍ في امتداح. وبالمقابل، ما سبق، وعلى حمولته السلبية، ليس بالأهم، وحيث من الممكن أن يحلو للبعض ممن كان معمر القذافي يُضحكهم أو كان عيدي أمين يُسليهم. لكن الأخطر والذي لن يترك المشهد السياسي بخير يُذكر على الرغم من خروج "مُنظّره" ترامب منه، فهو ترسيخ تيار شعبوي كان يترنح خجلاً بين الأسطر في الكثير من البلدان ولدى عديد من القادة، فصار له مع ترامب حضور يتراقص في العلن راكلاً بقدمه كل ما يمكن اعتباره أخلاقياً، ولو بشكل نسبي ومحدود، في ممارسة العمل العام. كما صار لرجل الاستعراضات التلفزيونية الهابطة، وهو عمله إلى جانب العقارات قبل وصوله إلى البيت الأبيض، أن يفسح الطريق واسعاً لنشوء تيار، لربما لم يرتبط وجوده أساساً بترامب إلا أنه تعزّز وصار وقحاً في ظلّه، وهو تيار الشعبوية السياسية اليمينية العنصرية الوقحة والتي امتدت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب مع دعائم أوروبية توضّحت في شرق ووسط أوروبا مع استطالات إيطالية وفرنسية وبريطانية.

هل وصل دونالد ترامب بانقلاب أو بتزوير انتخابات؟ بالطبع لا، فهو قد حصد أصوات الملايين في عملية ديمقراطية. كما أنه في انتخابات الأسبوع الماضي، استطاع أن يزيد أيضاً حصته من أصوات الأميركيين، وهذا دليلٌ آخر على شعبية الخطاب السياسي السطحي المليء بالإثارة والترهيب، ليس في أميركا فحسب، بل في الكثير من الديمقراطيات الغربية أيضاً، فالديمقراطية هي في أزمة حقيقية في ظل التطور غير محمود العواقب للشعبوية اليمينية المتطرفة.

أما الرهان على تطرفٍ سياسيٍ وعنجهيةٍ إنسانيةٍ فهو خاسرٌ مهما خُيّل للمراهنين بأن حصانهم الهائج قد أفاد ـ ولو جزئياً ـ في مرحلة مبهمة من مساره الرئاسي ما ظنّوا بأنه لمصلحتهم. ولن يسترسل هذا المقال في تفنيد النقاط الثلاث المذكورة في أعلاه ليتبين بأنها لم تفد في شيء، إلا بشكل محدود جداً، مصالح السوريين. بالمقابل، من المهم الإشارة إلى أن من سعى ويسعى إلى تحقيق تغيير ديمقراطي كما التخلص من الاستبداد على اختلاف أنواعه، وتعزيز الكرامة الإنسانية، لا يمكن أن يُراهن على من مساره مليء بنقيض ذلك كله.