الديماغوجية بين نظام الأسد والمعارضة

2022.03.01 | 05:04 دمشق

mhmd-qbnd.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يعرف كثيرون، وأنا منهم، المعنى الدقيقَ لمصطلح "الديماغوجية" الذي يُستخدم في عالم السياسة، ولكننا، ومن فرط ما مورست علينا، وسببت لنا من مآس وويلات، أصبحنا نحفظ آليات إنتاجها عن ظهر قلب.

بين محمد قبنض وعلي الديك

الملياردير السوري محمد قبنَّض، صاحب شركة الإنتاج التلفزيوني الشهيرة، عضو مجلس الشعب المتخصص بـ (محاربةِ الإرهابيون بالطبلِ والزمر)، مثلاً، عندما سئل، في مقابلة تلفزيونية، عن الشهادات العلمية التي يحملها قال: إنني أحمل أقوى شهادة عرفها التاريخ؛ شهادة أن لا إله إلا الله..

إذا كان للديماغوجية أنواع، يمكننا أن نطلق على هذا النوع، بالاعتماد على اللهجة الحلبية، اسمَ الدماغوجية الطَشَنة (أي: الغبية)، لأن في العالم اليوم ما ينوف عن مليار مسلم يحملون شهادة أن لا إله إلا الله، وربما كانوا ملتزمين بدينهم أكثر من هذا الـ قبنض الذي صنع ثروته في بريطانيا، من خلال المشاركة في بوازير المزاد.. فلو ذهب شاب منهم لخطبة فتاة ما، وأبرز لأهلها هذه الشهادة بدلاً من الليسانس والدكتوراه، أو حتى شهادة معلم بيتون عليها خاتم نقيب صبابي البيتون، لرفضوه.. وبوضوح أكثر؛ لو أن قبنض تباهى بتميزه، أيام شبابه الأولى، في مجال توزيع سندويش الخاروف من محلات "الزَمَّار" في عبارة سينما حلب، لأقنعنا، وأهلَ العروس، بشيء من التميز.

المطرب علي الديك، المؤسس الفعلي للأغاني الزراعية في سوريا، كان أقل غباء من قبنض، إذ صاغ ديماغوجيته بطريقة ملتوية. سألوه، في برنامج "غنيلي لأغنيلك" على قناة "الجديد": أنت مع الثورة ولا مع النظام يا علوش؟ فقال: أنا طول عمري أكره الفوضى، وأمشي على النظام؛ أقف على باب الفرن بالدور، ولا أتجاوز بسيارتي إشارة المرور الحمراء، يعني، شيء طبيعي أني كون مع (النظام)!

ووقتها انفجر الحاضرون بالتصفيق.

شاعر جزمة قديمة

يمكنني، هنا، أن أشير إلى أن التصفيق هو الظاهرة الرئيسية الملازمة لكل المواقف الديماغوجية، دون استثناء. أذكر أن شاعراً محسوباً على جهة مخابراتية كبرى في دمشق، زارنا في المركز الثقافي بإدلب، في فترة الثمانينيات، وألقى بعض أشعاره، وعند انتهاء الأمسية تقدم منه عنصر من الأمن السياسي، وطلب منه، على استحياء، القصائد التي ألقاها، ليأخذ لها صوراً (فوتوكوبي) ثم يعيدها إليه. كبرت المسألة في دماغ ضيفنا الشاعر، ودماغه - على حد تعبير عادل إمام - جزمة قديمة.. وبدا له ذلكم المخبر الشاب مثل مَن يبيع المياه في حارة السقايين، فقال له، على الملأ، (مستخدماً كلمة رفيق) ما معناه، إنه، بهذا الطلب، يرتكب خطأً جسيماً، خطأً يشوش على جو الديمقراطية الذي أشاعه القائد التاريخي حافظ الأسد في سوريا الصمود والتصدي، حافظ الأسد المعلم الذي يقود السفينة، باني سوريا الحديثة، بطل التشرينيين، رافع العلم العربي السوري في سماء القنيطرة المحررة، ورافع مكانة سوريا بين الأمم، الذي يعمل الآن على تحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني، لكي تزحف ألويةُ جيشنا الجرارةُ غداً، لتحرير الجولان، ولواء إسكندرون، والضفة، والقطاع، والقدس الشريف، وصولاً إلى الأندلس السليب.

لم يقل الشاعر المخبر المخضرم للعنصر المتمرن الغر هذا الكلام دفعة واحدة، بالطبع، لأن الجمهور كان يقاطعه بالتصفيق بعد نطقه بكل جملة، وهو، من فرط ملعنته، صار يتقصد ترك وقفة (إس) بين كل جملتين، من أجل التصفيق خص نص.. يا سيدي، حتى عنصر الأمن السياسي، وعلى الرغم من شعوره بالغبن والهزيمة بادئ الأمر، فقد تحمس، وصار يصفق، وحينما ارتفعت نسبة الحماس لديه اعتلى كرسياً وراح ينادي يعيش حافظ الأسد، ذلك القائد المقدام..

ديماغوجية البعث

لا شك في أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو الأب الروحي للديماغوجية العربية، دون منازع أو منافس، إنه حزب يقول الشيء ونقيضه، ويستطيع أن يثبت لمستمعيه صحة الشيئين إياهما، وبالأدلة القاطعة! هو حزب ديمقراطي، أيْ نعم، ولكن ماذا لو اكتشفت كوادرُه أن الديمقراطية تعيق مسيرة الإصلاح والتطوير والتحديث والتحرير؟ ألا يستطيعون إقناعنا بأنها تدمر المجتمع وتعيق النضال في سبيل توحيد الأمة العربية من الماء إلى الماء؟  

بالطبع يستطيعون، ولهذا اخترعوا عبارة "العدو على الأبواب".. تطالبوننا بإلغاء قانون الطوارئ ومحاكم أمن الدولة، وإشاعة الديمقراطية في البلاد، والعدو على الأبواب؟ تريدون محاربة الفساد والمحسوبيات وتعترضون على خفض العزيز ورفع الوضيع والعدو على الأبواب؟.. يا سيدي، وحتى عملية التحديث في الأدب والفن مرفوضة، بحسب الروائي محمد إبراهيم العلي، بسبب قرب العدو من أبوابنا.

(معروفةٌ حكايةُ إبراهيم العلي حينما قال له أحد الناس، في ندوة أدبية، رواياتك يا أبو الندى ما فيها فنية، فرد عليه: تريد فنية والعدو على الأبواب؟).

ديماغوجية الفشخرة

هناك نوع من الديماغوجية يقترب من المفهوم الشعبي المسمى "الفَشْخَرة"، أي التباهي بإمكانات غير متوفرة على الإطلاق. لعل أبرز الأمثلة عليها الأغاني التي انطلقت في مصر وسوريا، أيام هزيمة حزيران التي تسببت بها ديماغوجية جمال عبد الناصر والبعثيين السوريين.

الأغنية الأولى راقية فنياً، بلا شك، عنوانها "راجعين بقوة السلاح"، كتبها صلاح جاهين، ولحنها رياض السنباطي، وغنتها أم كلثوم في أوائل شهر حزيران 1967، وثمة مَن زعم أن إسرائيل انتبهت إلى كونها معمولة على عجل، بدليل أن أم كلثوم، أثناء تقديمها على شاشة التلفزيون، لم تكن تحفظ كلماتها، (يقف وراءها ملقن)، فاستنتجت (إسرائيل) أنها إعلان للحرب، وسارعت إلى شن هجومها.. والأغنيتان الأخريان سوريتان، هابطتان، أولاهما ميراج طيارك هرب، مهزوم من نسر العرب.. وثانيهما عَبّي لي الجعبة خرطوش وناولني هالبارودة، بيكلفني خمس قروش الـ يقرّب صوب حدودي. 

هامش:

مما يؤسف له، حقيقةً، أن الديماغوجية لم تكن بعيدة عن خطاب السادة المعارضين لنظام الأسد، طوال السنوات الـ 11 التي مضت من عمر الثورة. إذا لم نقل إنهم يكذبون على الشعب فيما يوجهونه إليه من خطاب، فنحن نجزم بأنهم يخفون عنه الكثير من الحقائق.. والذين تبوؤوا مناصب ذات صفة (سياسية) في الثورة، اشتغلوا في كل شيء عدا السياسة.. لم يبادر أي منهم لإطلاق مبادرة شجاعة لحل القضية بمجملها، أو بعضِ القضايا التي تتفرع عنها، وكانوا، وما زالوا يستعيضون عن تقصيرهم بشعارات لا تختلف كثيراً عن شعارات النظام الذي يتحدث، منذ الأزل، عن الحرية، والكرامة، وأن الشعب السوري (ما بينذل)، وثمة معارضون متأسلمون يشتغلون لمصالحهم الشخصية، ومع ذلك، كلما حكيت مع واحدهم كلمتين يقول لك: هي لله هي لله، لا للمنصب ولا للجاه. فتأمل!