الدستور والمستور

2018.06.25 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

استغرق الأمر أكثر من ستة شهور لتفعيل قرار مؤتمر سوتشي بشأن تشكيل لجنة دستورية بإشراف المبعوث الأممي ستيفان ديمستورا، واحتاج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى استدعاء بشار الأسد إلى مكتبه لإقناعه بالمشاركة في تشكيل اللجنة. ويتنقل ديمستورا بين العواصم المعنية للحصول على التوافقات بشأن اللجنة ونواظم عملها وعضويتها، مضحياً بحقه في مشاهدة مباريات كأس العالم أو الاستمتاع بوقت الراحة بالطريقة التي يحبها. فالعمل قبل كل شيء! وبخاصة أن مصير سوريا وضع بين يديه، فلا بد من بذل كل الجهود لإنجاز المهمة المكلف بها، مهما تطلب ذلك من وقت وتعب وتضحيات!

في غضون ذلك، يمضي النظام الكيماوي في معركته على المنطقة الجنوبية، بعدما وافقت إسرائيل على استعادته لها، بشرط إخلائها من الوجود الإيراني "الحزبلاهي"، فتراجع الأميركيون عن تحذيراتهم السابقة، وبات الطريق سالكاً لتأمين العاصمة من الجهة الجنوبية وصولاً إلى الحدود الدولية مع إسرائيل والأردن.

يعرف ديمستورا، كما يعرف المشاركون في "عملية" تشكيل اللجنة الدستورية أن دستور سوريا الجديد ستكتبه الدول المعنية، روسيا وإيران وتركيا، والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن، إذا تمكنت من التوافق فيما بينها على مصير سوريا، وليس أعضاء اللجنة الدستورية الذين سيطلب منهم، في الحالة المذكورة، التوقيع عليه كشهود زور، لكي يكتسب الشرعية، ولتبنى عليه الإجراءات اللاحقة من انتخابات عامة ورئاسية.

وبما أن التوافق المطلوب لن يحدث لمجرد رغبة فلاديمير بوتين بذلك، فسوف يتم استغلال الوقت الضائع لاستكمال سيطرة النظام على ما يستطيع السيطرة عليه من مناطق، وما يرافق ذلك من تغييرات ديموغرافية لا بد منها لتحقيق "البنية التحتية" للدستور العتيد، أي "المجتمع المتجانس" الخالي من أي بذور تمرد أو اعتراض محتملة.

كما تخصص روسيا جزءً من "جهودها"، في هذا الوقت الضائع، لهندمة النظام وتشذيب نتوءاته، كإخلاء شوارع دمشق من الحواجز، أو ضرب أمراء الحرب من الشبيحة الفالتين، كحالة أيمن جابر وغيره، ممن يمكن أن يشوشوا على الوصي الروسي قصة نجاحه في سوريا.

تارة يبلغ التصعيد الأميركي ضد إيران أقصى درجاته، فتضرب إسرائيل مواقع القوات التابعة للحرس الثوري في سوريا مع تهديدات بالمزيد، وتارة أخرى يتلقى النظام الكيماوي إشارات مشجعة على المضي قدماً نحو الجنوب.

لكن كل تلك الإجراءات لن تكفي لإقناع دول الخليج وأوروبا بالمساهمة في إعادة إعمار ما هدمه النظام وروسيا طوال السنوات السابقة، لتسليمها "جاهزة للاستخدام والمفتاح في اليد" لبشار الأسد الذي من المفترض أن يفوز في الانتخابات الرئاسية المنبثقة من الدستور المنبثق من اللجنة الدستورية المنبثقة من سوتشي وجنيف. فكل تلك الانبثاقات المترابطة المتناسلة تحتاج إلى قرارات من دول لها مصلحة مشتركة، أو مصالح متقاطعة، في "سوريا المستقبل" أو "الجمهورية الأسدية الثانية".

في زمن سابق، كانت القرارات الكبيرة بشأن سوريا تتخذ، عموماً، بالتوافق بين موسكو وواشنطن، في عهد الثنائي كيري – لافروف، سايكس – بيكو القرن الواحد والعشرين. أما وقد رحل جون كيري مع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، فقد ضاع مركز القرار، وراح ديمستورا يتنقل برشاقة بين عواصم إقليمية ودولية كثيرة، بعدما حيرت مسالك دونالد ترامب جميع المعنيين، ففقدوا القدرة على توقع ما يمكن أن يفعله في اليوم التالي.

فتارة يبلغ التصعيد الأميركي ضد إيران أقصى درجاته، فتضرب إسرائيل مواقع القوات التابعة للحرس الثوري في سوريا مع تهديدات بالمزيد، وتارة أخرى يتلقى النظام الكيماوي إشارات مشجعة على المضي قدماً نحو الجنوب، وتارة ثالثة تضرب إسرئيل قواته وقوات الحشد الشعبي العراقي (للمرة الأولى) قرب البوكمال في أقصى الشرق على الحدود السورية العراقية. وتارةً يعلن ترامب عن نيته في سحب قواته من كل الأراضي السورية، وتارة أخرى يقيم المزيد من القواعد العسكرية شرقي نهر الفرات. وتتذبذب الأخبار بشأن توافق أميركي – تركي حول منبج، صعوداً وهبوطاً، وتستمر الضغوط الروسية – الأميركية على تركيا مع جزرة صواريخ s400 من جهة، وطائرات f35 من جهة أخرى.

القصد أن التوافق المطلوب لتشكيل اللجنة الدستورية، كما لصياغة الدستور، يتطلب توافقاً يسبقه على وقف الحرب والانتقال إلى حل سياسي، سبق لمجلس الأمن أن قرر بشأنه (القرار 2254 المتضمن بيان جنيف1)، لكن الروس أفشلوا تطبيقه، ولم تفعل الدول الأخرى في مجلس الأمن شيئاً في مواجهة هذا الإفشال. وصولاً إلى التخلص من مرجعية القرار والبيان المذكورين من خلال إطلاق مسارات موازية في آستانة وسوتشي، روسية المرجعية، بعيداً عن مجلس الأمن، مع مواصلة الحرب الطاحنة التي أنتجت الوضع الميداني القائم الآن.

كأن الدول الفاعلة في الصراع السوري متفقة على نقطة وحيدة هي تعويم النظام الكيماوي، سواء في ذلك حلفاؤه الروس والإيرانيون، أو "خصومه" المفترضون. هذا ما يمكن تلمسه، خصوصاً، في موقف إسرائيل الذي عبر عنه نتانياهو بوضوح: ابتعد عن إيران لتبق في السلطة! وربما طرأ شيء جديد في الموقف الإسرائيلي من إيران أيضا، يمكن تلخيصه في معادلة إبعاد القوات الإيرانية عن حدود إسرائيل مقابل بقائها في باقي الجغرافيا السورية. وهو ما يتعارض مع الاستراتيجية الأميركية المعلنة بشأن طرد إيران من كل سوريا. هذا مما قد يدفع إلى الاعتقاد بحصول مقايضة تحت الطاولة، تتخلى إيران بموجبها عن اليمن، مقابل بقائها في سوريا، أو بعض سوريا.

الخلاصة هي أن روسيا تعمل في سوريا، ترتبها وتهندسها كما يناسب مطامحها بعيدة المدى، في حين تراقبها الدول الأخرى بانتظار نجاحها في مسعاها لتوافق على النتيجة النهائية، وتتدخل كلما اقتضت الحاجة، وبقدر ما تقتضي، لتصويب الاتجاه أو تعديل الموازين.

أما الدستور الدمستوري، فلا بد من أن يصدر يوماً ما. ولم العجلة؟