الدستور الملعون.. مقتل فوزي الغزي

2020.08.01 | 23:59 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

تصلح قصة الراحل فوزي بك الغزي لتكون رواية ربما أو حتى فيلماً طويلاً، فقد كان الشاب المحامي الطموح في أوائل ثلاثينياته حينما قتل (حسب بيان المحكمة في دمشق) على يد زوجته وابن عمه، ولكنه قبل ذلك كان المحامي النابغ وأحد مؤسسي حزب الشعب برفقة الزعيم عبد الرحمن الشهبندر والرئيس فارس الخوري، حيث عمل الثلاثة على تأسيس حزب جديد كان من طلائع الأحزاب السياسية السورية إن لم يكن أولها.. كان تأسيس الحزب في سنة 1925، وهي السنة ذاتها التي اندلعت فيها شرارة الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي، وكان ذلك بعد عدة أشهر فقط من تأسيس حزب الشعب، وعلى الفور تداعى الرجالات الوطنيون لدعم تلك الثورة وتأمين كل مستلزماتها من ذخيرة وتبرعات مالية ودعم سياسي وصحفي، فكان الغزي يجتمع مع قائد ثورة الغوطة حسن الخراط، والشهبندر ينسق مع قائد الثورة في عموم سوريا سلطان باشا الأطرش، واستمر التنسيق والدعم حتى تم إلقاء القبض على الخوري والغزي وأودعا السجن والمنفى بداية في الحسكة ومن ثم في جزيرة أرواد في الساحل السوري، حيث تعرضت صحة فوزي الغزي إلى كثير من الضرر نتيجة ظروف السجن القاسية وبنيته الجسدية غير المؤهلة لتحمل ظروف عنيفة وتعذيب نفسي وجسدي.

ففقد كثيراً من أسنانه تساقطاً، وأصيب في ظهره إصابات بليغة جداً، في العام 1927 خرج من السجن بعد انتهاء الثورة وعاد إلى مزاولة نشاطه الحقوقي، فانتسب إلى الكتلة الوطنية، متخلياً عن حزب الشعب لأسباب مجهولة ربما تكون خلافاً في التوجهات السياسية بينه وبين الزعيم الشهبندر، ولكنه ما أن انتسب للكتلة الوطنية التي كانت تعد أكبر تجمع سياسي سوري حينها، حتى انتخب شعبياً لعضوية المجلس التأسيسي المكلف بكتابة الدستور السوري في العام 1928 فكان نائباً لرئيس المجلس التأسيسي الزعيم هاشم الأتاسي، حيث شهدت اجتماعات المجلس صراعات كبرى بين أعضاء الكتلة الوطنية وممثلي الانتداب الفرنسي بقيادة الزعيم تاج الدين الحسني، ولكن مقرر المجلس السيد فوزي الغزي استطاع وبحنكة حقوقية أكاديمية أن يمرر – بعد أن استرشد بالدستور الفرنسي لعام 1875- كل مطالب الشعب السوري وأن يرفض ويقاوم بمساندة بقية الأعضاء والمظاهرات في الشارع كل ما حاولت السلطات الفرنسية أن تفرضه من بنود مقيدة للدستور حتى ثارت ثائرة المفوض الفرنسي هنري بونسو بسبب خمسة بنود قالوا إنها تدعو وتمهد لاستقلال البلاد السورية وفرض بالقوة بنداً ينص على ألا تتعارض أية نصوص من الدستور مع نص اتفاقية الانتداب، وكان هذا كافياً لقتل الدستور، لكن بقية بنوده كانت غاية في الدقة والمنهجية ويشهد رفقاء فوزي الغزي وكل سياسي فترة الانتداب وما بعدها على صوابية دستور 1928. الذي أطلق عليه اسم الغزي بعد وفاته.. تميز دستور 1928 بحماية الملكية الخاصة، وحماية الصناعة الوطنية، وسوريا جمهورية نيابية، وحماية الحقوق والحريات، والأمة مصدر كل سلطة، والسلطة التشريعية منوطة بمجلس النواب.. عطل المندوب السامي عمل الجمعية التأسيسية بالكامل لمدة ست شهور وتلاها تأجيل آخر مما أفقد اللجنة الدستورية فاعليتها ولكن المندوب السامي عاد في العام 1930 وأعلن الموافقة والقبول بالعمل بدستور 1928 ولكن مع الإبقاء على المادة السابقة التي تعطي الانتداب السلطة بتعليق عمل أي مادة تتعارض مع شروط الانتداب ..لذلك سمي الدستور بدستور 1930.

دفن الرجل في مقبرة الدحداح في دمشق، ولكن صديقه الطبيب الألماني والذي ما إن سمع بنبأ وفاته حتى طار إلى دمشق فأمر بفتح القبر والكشف على الجثة وتشريحها

وبالعودة إلى مقتل فوزي الغزي، ففي العام 1929 وأثناء ذهابه مع أسرته الصغيرة المكونة من ولديه وزوجته لطفية اليافي إلى ناحية الريحان في الغوطة لقضاء نهاية الأسبوع ومن ثم العودة إلى دمشق، أصابت فوزي الغزي وعكة صحية كانت تنتابه مذ خروجه من المعتقل، فطلب من زوجته الدواء الموجود في حقيبتها فأعطته حبة، وبعد أقل من نصف ساعة كان قد أسلم الروح، فأصيبت الأوساط السياسية والشعبية السورية والعربية بصدمة كبيرة، وخرجت جنازة ضخمة تأبنه، حيث تداعت الوفود من جميع نواحي سوريا من حلب وحماة والجزيرة وبيروت وطرابلس وعمّان والقدس لحضور جنازته ورثاه عدد كبير من القادة والزعماء منهم فارس الخوري وهاشم الأتاسي والمفتي أمين الحسيني، وألقى أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدة أشاد فيها بمناقبه وخسارة الأمة العربية لرجل من هذا الوزن والأخلاق.

دفن الرجل في مقبرة الدحداح في دمشق، ولكن صديقه الطبيب الألماني والذي ما إن سمع بنبأ وفاته حتى طار إلى دمشق فأمر بفتح القبر والكشف على الجثة وتشريحها، فتبين له أنه مات مسموماً بسم مشهور صنع للكلاب وقتها، فتم تأسيس لجنة للتحقيق في مقتله، وكشفت التحقيقات تورط زوجته وابن أخيه رضا الغزي في عملية مقتله لأسباب عاطفية كانت تجمعهما، فتم الحكم على المتهمين بالإعدام ولكن تدخل المندوب السامي أدى إلى تخفيف الحكم عنهما إلى السجن المؤبد، وحكم على الصيدلاني الذي أعطاهما السم بالسجن لمدة عام.

وهكذا قضت الزوجة لطفية اليافي عشرين عاماً في السجن، التقت فيها بالكثير من السجناء، والسياسيين لأنها كانت تُعامل معاملة خاصة كونها محكومة لمدة طويلة، فالتقت هناك في سجن القلعة بالضابط حسني الزعيم المسجون بتهمة التعامل مع قوات فيشي أثناء الحرب العالمية الثانية، والذي كانت تساعده في الغسيل والكوي وباقي الخدمات في السجن لقاء مبالغ صغيرة تعيلها في السجن، مما أثار تعاطف الزعيم حسني الزعيم معها فوعدها بالإفراج عنها حينما سيصبح رئيساً وهذا ما كان، ففي العام 1949 نفذ حسني الزعيم الانقلاب العسكري الأول في تاريخ سوريا، وكانت أولى مراسيمه الجمهورية هو الإفراج عن المتهمين ممن قضوا عشرين عاماً بناء على تخفيف أحكام الإعدام، فخرجت لطفية اليافي من السجن حينها، وسط عاصفة من الغموض حول تورطها من عدمه في قضية مقتل أبي الدستور السوري الذي قتل حينها عن عمر لا يتجاوز 32 عاماً، مخلفاً وراءه إرثاً دستورياً ضخماً لايزال يذكر حتى يومنا هذا ، ربما كان هو السبب في لعنة مقتله وربما لا.