الخليفة والقيصر ونحن

2022.10.13 | 06:30 دمشق

الخليفة والقيصر ونحن
+A
حجم الخط
-A

حاولتُ، ومع ذلك لم تسعفني خبراتي المتواضعة، فَهمَ حالتنا كسوريين، موالين ومناهضين. أقصد هنا، مَيْلنا المحموم للوهم على حساب الواقع. للمستحيل الذي نعرف أنه كذلك، على حساب ما هو متاح. سيرصد أي متتبع لأقوالنا ومنشوراتنا السورية زهدنا باستمرار الحرب، وفي نفس الوقت، رفضنا للحلول المتاحة. أقول المتاحة، مشدداً على هذا التوصيف، لأن "النصر المبين"، لم يعد من ضمن المعروض، وأكاد أجزم أنه لم يكن يوماً كذلك.

بعض السوريين، ملكيون أكثر من كلِّ ملك، ولعلّي لا أستثني إلا قلّة. سوريون تراهم منقسمين ولاءً بين "خليفة" ما ادّعى يوماً هذا الشرف، وقيصر جعلوه "أبا علي" على حين غفلة منه، ومن الزمان. تستمر المأساة، وتنتشر قبور السوريين، براً وبحراً. بينما نحن نتابع لعب دور المظلوم الذي لا يمتلك سوى الندب، وتقمّص دورٍ في سيناريو درب الآلام. آلامٌ لم يكن في بدايتها عشاء أخير، ولا يبدو، حتى اليوم، أن في نهايتها قيامة مجيدة.

قبل شهر تقريباً، نشرت صحيفة "حرييت" التركية، الموالية للحكومة، مقالاً للصحفي التركي عبد القادر سلفي، ذكر فيه أن الرئيس التركي أردوغان أدلى بتصريحات بشأن بشار الأسد خلال اجتماع مغلق لحزب العدالة والتنمية الحاكم. يقول سلفي نقلاً عن أردوغان: "كنت أتمنى لو حضر الأسد إلى أوزبكستان، لكنتُ تحدثتُ معه، لكنه لا يستطيع الحضور إلى هناك".

سمعنا كسوريين حينئذ بهذا التصريح، فانقسمنا بين محبّ يعتب، ومبغض يتشفّى، ولا يجهل إلا البسطاء، انعدام سعر صرف المشاعر الجياشة في بازارات السياسة. بالإضافة طبعاً إلى تقصير الطرفين، في تتبع وتحرّي الخبر كاملاً، حيث ولأسباب ربما تخضع لذات البازارات، تم بدايةً طمس جزء من ذات التصريح في الاجتماع ذاته، والوارد في نفس مقالة "حرييت" التي تابعتْ عبر كاتبها، بأن الرئيس التركي ذكر أن الأسد "اختار الحرب مع المتمردين للحفاظ على سلطته، اختار حماية سلطته. كان يرى أن بإمكانه حماية المناطق التي يسيطر عليها، لكنه لم يستطع حماية مناطق واسعة".

أصرت كل من الضفتين المتخاصمتين في سوريا، على اجتزاء ما يداعب ويريح هواها، فالموالاة اعتبرت تصريح الرئيس التركي عودةً لبيت طاعةٍ لم يكن يوماً قائماً، ولا تجيزه موازين القوى، سواء بين الدولتين أو الشخصيتين. وعلى الجانب الآخر، انهارت عقب التصريحات ذاتها معنويات شرائح واسعة من السوريين المناهضين لحكم الأسد، معلنةً انطلاق "مهرجان اللطم"، وقوفاً على أطلال صلاة موعودة، في الجامع الأموي، بإمامة السلطان الفاتح، وخطوط حمر موعودة، على الأسد ألا يتجاوزها.

قلّة فقط تساءلوا بعد تلك التصريحات، أيمكن أن يكون ما يحدث مجدياً، مع الخضوع لمعادلة المصالح المشتركة، وأن يكون الأمر خطوة لتلمّس حلٍّ ما؟

هل سيتراءى للبعض أني أدافع عن أحد ما أو دولة بعينها وأنزهها؟ كما سيتراءى لبعض آخر أني أهاجم ذات الأحد والدولة؟ كلاهما معذوران عندي، فقد نشأنا في شرقنا عموماً، وعلى ضفة هذا المتوسط خصوصاً، ضمن بيئات ومدارس وأعراف، أرضعتنا وجوب التزام إحدى طائفتين. تكفيراً أو تقديساً.

قلّة فقط تساءلوا بعد تلك التصريحات، أيمكن أن يكون ما يحدث مجدياً، مع الخضوع لمعادلة المصالح المشتركة، وأن يكون الأمر خطوة لتلمّس حلٍّ ما؟ إذ ما الذي ينتظره السوريون من استجداء مُرِّ الحقّ المستحيل. حلّ لن يأتي على هوانا، مهما كابرنا، ضمن معادلات الوضع القائم، والساكن إلى حدّ كبير، منذ سنوات.

في السادس من الشهر الجاري، نشرت يورو نيوز، تصريحات جديدة للرئيس التركي، تتعلق باحتمال الاجتماع مع بشار الأسد مستقبلاً، أدلى بها في مؤتمر صحفي، على هامش انطلاق القمة الأولى للمجموعة السياسية الأوروبية، التي استضافتها العاصمة التشيكية براغ، جاء فيها: "مثل هذا الاجتماع ليس على جدول الأعمال حاليا. لكن لا يمكنني أن أقول بأنه من المستحيل مقابلة الأسد. عندما يحين الوقت المناسب، يمكننا أن نتجه إلى الاجتماع مع الرئيس السوري".

بمجرد انتشار التصريحات، عدنا سيرتنا الأولى، بين معلنٍ لانتصار إلهي أسدي، وبين مصدومٍ انتظر زحفاً من القسطنطينية لم يعِدنا به أحد. نعم كانت هناك أحاديث عن خطوط حمر. ولكن من قال إن وسائل رسم تلك الخطوط، ستكون كما يروق لنا، أو حتى كما تستحق دماؤنا؟ إنها ببساطة تخصّ أصحابها، وبالتأكيد ستخذلنا بعد أن فقدنا ليس فقط قدرتنا على الإمساك بالقرار، بل كلّ قدرة على أي فعل. اللغة بطبيعتها فضفاضة، وحين تدخل بازارات السياسة، تغدو أعرضَ هوامشاً وأكثر وجوهاً.

بشكل عام، لا يمكن أن نتوهم بأن كل ما يجري اليوم في الكواليس، في أكثر من عاصمة، لمحاولة إيجاد حل للمسألة السورية، سوف يتقاطع تماماً مع مصالحنا كسوريين مناهضين للاستبداد. علينا أن نخشى الأدهى، والإشارات ليست خفيّة، وهو أن تأتي مرحلة تتضارب فيها مصالحنا مع الجميع. ما أريد قوله، لو تتبعنا محور الزمن، والمراحل التي مرّت بها القضية السورية، فسنجد أنه عند كل تحديث زماني تتغير مواضع الأطراف الفاعلة، وهناك دوماً ما يشير إلى هذا التغيير في تموضعات الدول وتبدّل مصالحها، وعلى الدوام كنا نخسر أكثر. خلال كل ذلك كان يستمر النزيف، مستنفداً إيانا، بشراً وعمراناً، في تراجيديا سوداء. سوداء حتى بعيني من يمتلك روحاً متمردة بطبيعتها.

توفي قبل فترة في فرنسا "مراد الشوّاخ". مراد شاب سوري ناشط وثائر، حطّت به الأيام هناك، بعد أن قدّم كل ما استطاع. نعاه الآلاف على صفحات التواصل، وهو ما أدهشني فعلاً. شخصياً، لم أكن سمعت باسمه من قبل، ولوهلة اعتبرت هذا تقصيراً مني. لكن بعدها ذهبت بالتفكير أبعد. هناك عشرات الآلاف من الشبان السوريين ممن يشبهون مراد رحلوا قبله، أولئك الذين كانوا يحملون في دمهم لوثة الحقيقة والصدق والشجاعة، وليس مطلوباً مني ولا من أي أحد، أن يعرفهم جميعاً.

هؤلاء الشباب الراحلون، شكّلوا ظاهرة مبهرة نشأت زمن الثورة، كما نشأت ظاهرة اللصوص والفاسدين والمتسلقين، التي انتهينا إليها. مئات الآلاف قدموا دمهم وقضوا، والنتيجة أنه لدينا مناطق محررة (محررة! يا للنكتة)، يتحكم بها مجموعة من المرتزقة وشذاذ الآفاق، الذين شكلوا الظاهرة النقيضة.

وأنا أكتب هذه المادة تتواتر الأخبار الآن، أن التحقيقات كشفت أن من قاموا باغتيال الناشط "محمد عبد اللطيف أبو غنوم" وزوجته الحامل، في بلدة الباب قبل أيام، كانوا ثلاثة سوريين، ينتمون إلى "فرقة الحمزة" المنتظمة في صفوف الجيش الوطني جداً (يا لخيبة السوريين بالأسد، وبهؤلاء). هل بدوت لكم قد انضممت إلى جوقة الندّابين؟ لا. ولكنه بعض اليأس الذي أخذ منّا جميعاً. فلا حالة مشرِّفة لا سياسياً ولا عسكرياً، لا في الواقع ولا في الأفق المنظور. ولو ظهرت أية حالة من هذا النوع فسوف نقتلها في مهدها، ونقتل أفرادها بهجوماتنا المريعة المعتادة، في آليّة كانت للأمانة، من أغرب الظواهر خلال الثورة. تناقل كثيرون عن "الشواخ" قوله في وصف أصدقائه "إنهم يموتون بسرعة"، وأضيفُ إنهم كانوا وما زالوا يموتون بكثرة أيضاً.

أنا مثل جميع السوريين المرتبكين الذين أخذ منهم اليأس كل مأخذ. يأسٌ أصفه بأنه واقعيّ، فهو وليد واقع مريع

لعله ليس من الحكمة، ذكر كلمة "فلسفة"، في بيئة تلجأ لاستخدام الكلمة بهدف تسفيه ما لا ينسجم مع معتقداتها. سأغامر مرتين، أولاً بذكرها وثانياً بإتباعها بالبراغماتية، والأخيرة تحديداً مرذولة في أذهان النخب. سأقتبس من أحد تعريفات الفلسفة البراغماتية، ولم أكن يوماً معجباً بها: "صدقُ قضيةٍ ما، هو في كونها مفيدة، تبغي النجاح الممكن". وإن لا؟ فلينتظر من سيبقى حياً منا، نصراً يحققه الدّمُ على السيف. وهو ما لم يقدم لنا التاريخ نموذجاً عنه.

هل لديّ حل، أو مجرد فكرة عن حلّ؟ الحقيقة لا. أنا مثل جميع السوريين المرتبكين الذين أخذ منهم اليأس كل مأخذ. يأسٌ أصفه بأنه واقعيّ، فهو وليد واقع مريع. واقع يخاطبنا في كل لحظة بقول "دانتي" الشهير "تخلّوا عن كل أمل". ليست الحياة كريمة مع الشعوب على الدوام، فنحصي حينها ما حُزْناه وما امتلكناه. أحياناً لا تقدم لنا الحياة إلا لائحة بما فقدناه، ومن فقدناه. وهو ما يحدث لنا، حتى اليوم على الأقل.