الحجر الصحي كنموذج لسياسة واقتصاد عالم الكورونا وما بعده

2020.04.25 | 00:00 دمشق

580.jpg
+A
حجم الخط
-A

ارتفعت أسهم شركة أمازون يوم الثلاثاء الواقع في 14 نيسان من العام 2020 بنسبة 5,3%، ما سمح بتدفق 24 مليار دولار من الأرباح إلى رصيد مالكها رجل الأعمال جيف بيزوس في فترة لا تتجاوز الأربعة أشهر بينها حوالي 4،6 مليار دولار في يوم واحد، ووصول ثروته الصافية إلى حدود ال 138,5 مليار دولار.

حدثت هذه الطفرة الكبيرة في الأرباح في ظل أزمة جائحة كورونا التي تسببت بانكماش اقتصادي حاد، طال معظم القطاعات الاقتصادية وخصوصا ما يعتمد منها على الحركة والتنقل من قبيل النفط.

طفرة أرباح شركة أمازون المعتمدة بشكل كلي على النشاط الافتراضي تقدم نفسها كنموذج لاقتصاد يقوم على تعميم حالة الحجر والعزلة، والكف عن التنقل والحركة كنموذج لاقتصاد فعال، تتقلص معه الحاجة إلى النفط إلى حدود قد تقتصر على توصيل البضائع وحسب ولا تتعدى ذلك إلى الإنتاج الصناعي والعمل الزراعي وغيرها.

يتحرك عمال أمازون في الساحات والطرقات بينما يقبع الناس في بيوتهم. يحدث ذلك في ظل جائحة الكورونا. هكذا يقدم نفسه كحالة صحية وآمنة وموثوقة ومضمونة فاتحاً المجال أمام توسيع وتشريع وتعميم منطق العزلة الإجبارية بسبب الجائحة ليصبح منظومة متكاملة تقدم نفسها كطريقة للعيش.

تكفي مراقبة كل الخطابات والتصريحات السياسية والطبية بشأن الكورونا وحرصها على التأكيد بأن الصراع معه طويل الأمد وأن انكفاء حدة انتشاره أو تراجع أعداد الوفيات لا يعني القضاء عليه. يضاف إلى ذلك التأكيدات بأن التوصل إلى لقاح فعال ضده لن يكون متيسرا في الأمد القريب، وتاليا فإن إجراءات فك الحظر وإلغاء الإغلاق التام تمهيدا لإعادة جريان الاقتصاد المترافقة مع هذه التحذيرات تبدو وكأنها تقول للناس أن الخروج إلى الفضاء العام ليس سوى انتحار جماعي لا تتحمل المسؤولية عنه.

ربما تتيح السلطات في العالم هذا السياق وتجمع عليه لأسباب لا تتعلق بالاقتصاد القائم حاليا، بل بوصفه تمهيدا لشرعنة اقتصاد يقوم على تحويل حالة الحجر الصحي المحمية حاليا بقوانين تكتسب شرعيتها من وجود جائحة الكورونا إلى بنية طوعية يتبناها الناس.

يستعد الاقتصاد العالمي لتعميم نموذج أمازون وأمثاله من الشركات التي نجحت في تحقيق أرباح كبرى في ظل الجائحة من قبيل "والمارت" و"زووم" على كل بنية الاقتصاد، ما سيستجر تغييرا كبيرا ليس في حركة الاقتصاد وآليات عمله بل في طبيعة السلع ونوعها.

سيطرة الافتراض على الاقتصاد تفترض حتما في أن تمنح أولا الأولوية للسلع التي تتماشى مع منطق الافتراض، أي السلع الافتراضية نفسها من برامج وتطبيقات وكتب إلكترونية وما إلى ذلك، في مقابل تقلص كبير في السلع الفعلية أو فلنقل الحقيقية التي يتوقع أن يتضاءل حضورها الاقتصادي وفعاليتها.

توقع كثير من المحللين اليساريين خصوصا أن كل هذه المخاطر المحتملة والتي وضعتها جائحة الكورونا في دائرة الضوء ستؤدي إلى انحسار العولمة وانكفاء الرأسمالية، ومضى البعض إلى تفاؤل غير حذر يبشر بنشوء موجة عالمية من التضامن والتعاون.

تغاير وقائع الأمور كل هذه التوجهات لا بل تناقضها، وتنذر بنشوء موجة ثانية وعاتية من العولمة بمفاهيم جديدة تعيد البناء على المفاهيم السابقة ولكنها تعدلها وتكيفها لكي تتلاءم مع شروط الافتراض ومعاييره.

إذا كانت العولمة أطلقت مفهوم الحدود وجعلت العالم قرية صغيرة فإن الموجة الثانية منها ستشهد تنافسا حول تقليص القرية إلى منزل واحد والتنافس على من يمتلكه ويديره، ولكن هذا المنزل المصنوع من حجارة الافتراض لا يستقبل إلا المعلومات والبيانات والسلع الافتراضية والبرامج.

أول أثر للصراع على امتلاك هذا البيت وتكريسه كمصدر وحيد لعالم العولمة الجديد يفترض قبل كل شيء إغلاق الحدود تمهيدا للانعزال الداخلي، والتخطيط للغزو والحرب والسيطرة.

كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب أول من بادر إلى تنفيذ هذا المنطق مع إعلانه مؤخرا أنه "في ضوء الهجوم الخفي، وفي ظل الحاجة إلى حماية وظائف مواطنينا الأميركيين العظماء، سأوقع على أمر تنفيذي بتعليق الهجرة مؤقتا".

يعلن الرئيس الأميركي عن هذا القرار في بلد يشكل المهاجرون صلب حركة اقتصاده، ويدعي أنه يتخذ هذا الإجراء لحماية وظائف الأميركيين، بينما كشفت جائحة كورونا أن المنظومة الاقتصادية للدولة لا تضع الأمن الصحي في قائمة أولوياتها، وتاليا فإن المعنيين بهذا القرار يموتون بسبب آلية عمل هذا الاقتصاد وتوجهاته.

يستتبع ذلك نشوء تحولات في بنية السياسة الدولية بشكل عام، إذ إن طبيعة الصراع المفروض والقائم على التقنية الافتراضية الفائقة، سيدفع الدول إلى تسوير حدودها ومحاولة تعميم نموذجها الخاص بوصفه النموذج الخلاصي المنشود والذي على الجميع الخضوع له.

لا يعبر الاشخاص بل تعبر النبضات الالكترونية والبرمجيات. من هنا تنتفي حاجة الدول إلى أحلاف وشراكات وتقتصر على مستهلكين ينتجون سلطة الاستهلاك ويوسعونها بشكل مستمر. قد يكون نهج الرئيس الأميركي دونالد ترامب في هذه الفترة شديد الدلالة على سيطرة هذا التوجه، إذ إنه لم يتعامل مع أي دولة كشريك أو كحليف بل كان المعيار الربحي مسيطرا بالكامل على سياساته لدرجة بدا فيها مستعدا لفرض عقوبات على حليف تاريخي مثل السعودية بسبب الخلاف على موضوع النفط.

إنه عالم العزلات وتعميم بنية الحجر الصحي على الاقتصاد والسياسة حيث نجد فيه أنفسنا مجبرين على إنتاج اغترابنا وهلاكنا واستهلاكه.  

كلمات مفتاحية