icon
التغطية الحية

الجوائز الأدبية.. قُبلة موت رفضها أدباء يعشقون الحياة

2023.02.05 | 19:54 دمشق

أدب
+A
حجم الخط
-A

العلاقة بين الجوائز والمبدعين شائكة وملتبسة، فمن الملاحظ أن الجوائز نوعان؛ جوائز تشجيع تمنح للمغمورين من الموهوبين، وجوائز تتويج تمنح عن مسيرة أدبية كاملة.

الجوائز التي تُرفض عادة هي جوائز التتويج، أما جوائز المغمورين فهي تمنح بعد إجراء مسابقات يتقدم لها راغبوها بأنفسهم فيصبح رفضها عملا غير مبرر.

والرافضون للجوائز نستطيع أن نقسمهم إلى ثلاث مجموعات أيضا، منهم رافضون للجائزة بعد طول انتظار فيكون رفض عتب وأسى، ورافضون لأسباب أيديولوجية فكرية، وهناك رافضون لأنهم منتقدون المؤسسات التي تمنح الجوائز، وقبول الجائزة سيحد من حرية انتقادهم لتلك المؤسسات.

وظاهرة الجوائز الأدبية ليست بجديدة، ففي تراثنا العربي مثلا كان ينتخب من الشعر أفضله ويعلق على أستار الكعبة ضمن ما عرف بالمعلقات، وهذه جائزة معنوية للشاعر. وحتى مجالس الأمراء والخلفاء لم تخلُ من جلسات سمر يتبارز فيها الشعراء وتُقدّم لهم العطايا، ولم يقتصر التكسب بالأدب على قصور الأمراء بل تعداها إلى الأسواق ومجالس العامة وهو ما يطلق عليه أدب الكُدية (التكسب بالأدب).

تسييس الجوائز

من الطبيعي أن تتهم الجوائز بأنها مسيسة وأن اللجان غير عادلة ومتحيزة، لاحظنا ذلك بعد فوز محمد النعاس بجائزة البوكر العربية عن رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد"، ونراه في كل المسابقات، وهي اتهامات تسقط إذا كانت موجهة من قبل الخاسرين، لكن نظريا يمكن لهذه الاتهامات أن تكون صحيحة، فالجوائز مثل أي نشاط إنساني غير مسيس بذاته، ولكن السلطة تحاول أحيانا تسيسه أو توظيفه، وقد تنجح أو تفشل بذلك بحسب حركية المجتمع واستقلالية ووعي الأدباء والنقاد. ولعل الجوائز من الأدوات الناعمة التي تغري الأديب لضبط إيقاع أدبه وفق إيقاع السلطة وبذلك يفقد الأدب ذاتيّته.

كذلك من الطبيعي أن تكون الجوائز غير عادلة، فالأدب ذاتي يعبر الأديب من خلاله عن رؤيته، وكذلك لجنة التقييم تعبر عن ذائقتها الأدبية، خصوصا وأن النقد كعلم يحضر في هذه الجوائز كصفة لأعضاء اللجنة ويغيب كآلية من آليات التقييم، وهذا له علاقة بأزمة النقد في البلدان العربية ونتيجة لذلك قد يفوز متسابق آخر إذا كانت لجنة التقييم مختلفة.

جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي أيضا ممن رفضوا جائزة نوبل عام 1964، وسبب الرفض هو أن الجائزة "قبلة الموت، وسارتر لا يريد أن يدفن حياً"، بحسب تعبير أندريه غيغو المتخصص في فلسفة سارتر.

وهذه الذاتية في إنتاج الأدب وفي آليات التقييم تفسح مجالا واسعا للتسييس والأدلجة، ولعل منح جائزة العويس الثقافية للشاعر سعدي يوسف دليل على ذلك، فاللجنة "على ما يبدو" منحته الجائزة متأثرة بمواقفه السياسية المعارضة لصدام، إلا أن الشاعر "بدرت منه إساءة بليغة وبلغة منحطة لرمز من رموزنا الوطنية والقومية" وفق بيان مجلس أمناء مؤسسة العويس، ولذلك سحبت منه الجائزة!

ظاهرة رفض الجوائز

قد يكون الكاتب الساخر جورج برناردشو أول من رفض جائزة نوبل، حيث وصف الجائزة بأنها "أشبه بطوق نجاة يلقى به إلى شخص وصل فعلاً إلى بر الأمان ولم يعد عليه من خطر". إلا أن عباس محمود العقاد، في فصل "رافض الجائزة" ضمن كتابه "جوائز الأدب العالمية"، فنّد هذه الحجة بالقول إن جائزة نوبل "ليست من جوائز التشجيع، التي يراد بها تنشيط السابحين في طريقهم إلى بر الأمان، وإنما هي جائزة تتويج وتقدير، فبرناردشو لم يرفض الجائزة لهذا السبب، ولكنه رفضها لأنه رأى أنها تخطته عدة سنوات، ووصلت قبله مرات عديدة إلى أناس لا يساوونه في نظر الناس، ولا في نظر نفسه"

ويبدو أن العقاد مثل برناردشو الذي وصفه بأنه توّاق للجوائز التي تتجاوزه عاما بعد آخر، إذ يقول: "إذا أرادوا نشر الإسلام طبعوا كتبي، وإن أرادوا محاربة الشيوعية طبعوا كتبي، وإن أرادوا ترشيح أحد لجائزة نوبل، رشحوا طه حسين"!

جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي أيضا ممن رفضوا جائزة نوبل عام 1964، وسبب الرفض هو أن الجائزة "قبلة الموت، وسارتر لا يريد أن يدفن حياً"، بحسب تعبير أندريه غيغو المتخصص في فلسفة سارتر.

موقف سارتر من الجائزة يمكن تفسيره من خلال مواقفه من المؤسسات التي ينتقدها، فكيف يقبل بتكريمها؟ رفضه للجائزة قيمي فكري وتصالح مع الذات، فهو الرافض لـ "صكوكَ الغفران الجديدة التي تمنحها جائزة نوبل‏" بحسب قوله.

في عالمنا العربي رفض الأديب صنع الله إبراهيم جائزة الرواية العربية عام 2003، ورفض يورغن هابرماس جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2021، ورفض خوان غويتيسولو جائزة القذافي عام 2009، ورفض المفكر محمد عابد الجابري جميع الجوائز التي منحت له. ولعل موقف الجابري من التكريمات يذكرنا بموقف سارتر من جائزة نوبل، فالمثقف الناقد للمؤسسات يجب أن يتمتع بالحرية الكاملة غير المنقوصة، ولعل الجوائز من وجهة نظر رافضيها تُعدّ قيوداً على حرية النقد لتلك المؤسسات.

آخر رافضي الجوائز هو الروائي المصري شادي لويس بطرس الذي فازت روايته "تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة" بجائزة ساويرس للرواية في دورتها الثامنة عشرة (8 كانون الثاني الفائت)، ولعل موقفه منسجم مع آرائه وانتقاداته السابقة لساويرس (كجائزة وكشخص)، حيث كتب مقالاً بعنوان: "جوائز ساويرس: أدباء وجامعو قمامة" في موقع المدن ينتقد به استعلاء ساويرس ونظرته الدونية للمصريين الذين يعيشون بمنطقة "الزبالين".

بطرس
شادي لويس بطرس

الجوائز الأدبيّة وأزمة النقد الأدبي

في كتابه "اليد واللسان"، فصل "رفوف المكتبات (رأسمالية الثقافة)"، يقول عبد الله الغذامي: "البوكر جائزة سباق نحو رفوف المبيعات، أبطالها الناشرون والمؤلفون"، أي أن الغذامي يرى أن الجوائز الأدبية تندرج تحت مسمى تسليع الفنون وتحويل الأدب إلى سلعة معيارها الرئيسي العرض والطلب وتصبح القيمة التسويقية مقدمة على القيمة الجمالية، والمفارقة هنا أن السوق يتغلب على المعايير الجمالية، فالسوق له معاييره الواضحة، بينما المعايير الجمالية تحتاج إلى نقد حقيقي يعبر عنها ويستخرجها، وهنا تتضخم أزمة النقد في موسم الجوائز، فحتى لجان التحكيم المكونة من كبار النقاد غالبا ما يلجؤون إلى ذائقتهم الأدبية لاختيار النصوص، وهم بذلك يعترفون بأن آليات النقد الأدبي غير قادرة على تقديم أحكام قِيَميّة للنصوص المشاركة، وهذا يفسر غياب نقل الفضائيات لآلية عمل لجان التقييم ونقاشاتهم حول الأعمال المشاركة، فهذه النقاشات فيما لو نشرت قد يكون لها أهمية في زيادة وعي المتلقي والقارئ بمواطن الجمال أو القبح في العمل الأدبي.

الجائزة اعتراف بالأديب أم بالأدب؟

يفسر الروائي الإرتيري حجي جابر سبب التنافس الشديد على الجوائز بأنه بحث عن الاعتراف، ففي عالمنا العربي الفوز بالجائزة هو السبيل الوحيد للاعتراف بالأديب.

وبحث الأديب عن الاعتراف من خلال الجوائز، يقابله بحث الأدب العربي عن الاعتراف العالمي من خلال التتويج بجائزة نوبل التي أصبحت بمثابة اعتراف عالمي بمكانة الأدب على الخريطة العالمية. ولعل ما نراه من تراشق الاتهامات حول الجوائز العربية من تسيس وأدلجة وشللية، يقابله أيضا تشكيك بنزاهة جائزة نوبل التي غيبت الأدب العربي عن خارطة الأدب العالمي لفترة طويلة، حتى أن الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يرى أن "التيار المسيطر على الثقافة الأوروبية هو تيار عنصري" ويستدل على ذلك أن "غالبية الحاصلين على الجائزة أوروبيون ونادرا ما تمنح لغير أوروبي".

ختاماً يمكننا القول إن الصخب الذي يعقب إعلان الجوائز هو ظاهرة صحية، فالجوائز تحرك المياه الراكدة وتخلق دافعية للقارئ وتنافسية للكاتب، والعبء الأكبر يقع على لجان التقييم، التي يجب أن تتمتع بـ "عقلية الناقد وثقافته، وضمير القاضي ونزاهته" بحسب الناقد محمود الربيعي. والحقيقة أن رؤية الربيعي الحالمة يعوقها وسط ثقافي فاسد، ولعل الجوائز إحدى وسائل التشخيص لأمراض هذا الوسط.