الجانب المحجوب من عالم الكتب.. لماذا لا نقرأ؟

2023.05.02 | 07:36 دمشق

اتحاد الكتاب
+A
حجم الخط
-A

 

تكثر الإحصاءات التي تتحدث عن ضعف مستوى القراءة عند العرب. حتى إن الاختلافات بينهم وبين شعوب الدول المتقدمة يصل إلى أضعاف مضاعفة في بعض الأحيان. وتبدأ تلك الأحاديث، خاصة في اليوم العالمي للكتاب الذي يصادف هذا الأسبوع، بلوم العربي على قلة القراءة، وهو سليل أمة إقرأ.

طبعاً يعود ذلك اللوم إلى منطق التفكير السلطوي في الدول التي تسيطر عليها أنظمة استبدادية، والتي ترجع كل المشاكل والعيوب، ومختلف أنواع التقصّير إلى الناس. فالفقر يعود إلى أننا شعوب لا تعمل، والفساد إلى أننا شعوب أنانية قليلة الأمانة، حتى عدم الالتزام بإشارات المرور يعود إلى أننا شعوب فوضوية. نحن شعوب لا نحب بعضنا ولا نحترم الآخر ولا نراعي حرمة، ولذلك فإن الله يبلينا بمختلف أنواع البلاء.

ماذا سيقرأ الإنسان العادي؟ الصحف اليومية الرسمية التي لا تصلح إلا لمسح الأحذية (الصحف الوحيدة المسموح بها)، أو استعمالها بدل "السفرة" على الموائد المتواضعة لطلاب الجامعات والعساكر؟ أما الكتب الموجودة في السوق، فكلها كتب تتجاهل مشكلات وهموم العربي السياسية والاجتماعية؟

ضعف القراءة ليس عيباً خاصاً بعرب اليوم، بل إن كلّ الشعوب التي تعاني من أنظمة سلطوية لا تقرأ. لأن كل ما ينشر يمر عبر الرقابة الصارمة و"الموافقات الأمنية"؛ أي إما منشورات مليئة بالأكاذيب، أو كلاما غير مهم بالنسبة للإنسان العادي، أو غسيلا أيديولوجيا لعقول الناس لمنعهم من رؤية عورات النظام الحاكم ووجهه الأسود.

ماذا سيقرأ الإنسان العادي؟ الصحف اليومية الرسمية التي لا تصلح إلا لمسح الأحذية (الصحف الوحيدة المسموح بها)، أو استعمالها بدل "السفرة" على الموائد المتواضعة لطلاب الجامعات والعساكر؟ أما الكتب الموجودة في السوق، فكلها كتب تتجاهل مشكلات وهموم العربي السياسية والاجتماعية؟

كان النظام في سوريا قبل 2011 يشق الصفحات التي لا يريد أن يقرءها السوريين (الصحف القادمة من خارج سوريا، ولا سيما صحف القدس العربي والحياة والسفير)، على الرغم من أنها مهمة مكلفة وتحتاج لجهد. كما منع صحف النهار والمستقبل وكل صحيفة تنشر أخبار أو تحليلات تزعجه. مثلما كان يمنع دخول أي كتاب يشكّك في سياسات النظام، أو يظهر أرقام حقيقة أو تحليلات عن الوضع في سوريا. حتى تحولت القراءة إلى فعل غير مثير، وليس على السوري أن يتوقّع قراءة أي أمر مهم عن أحوله السياسية، أو يستشف ماذا يحصل في بلده. بحيث تحولت القراءة إلى فعل تغريبي، وممل.

كانت الصحف الأساسية الثلاث: تشرين والبعث والثورة تحتكر التعبير عن المشهد السياسي والثقافي. وكانت تهتم أولا بنشر أخبار الرئيس وبطولاته الوهمية ومعاركه "الدينكيشوتية". أما صفحات الأدب والثقافة والتحليلات السياسية فكانت محتكرة لأصدقاء ومعارف كبار موظفي تلك المجلات. كما أن الهواتف التي تأتي من هنا وهناك للتوسط لنشر هذه القصيدة أو تلك المقالة كانت تفعل فعلها. ولعل هذا ما يفسر أن كثيرا من الكتاب الذي يكتبون في تلك الصحف كانوا من اللاذقية وطرطوس.

وقد وصلت خشية النظام الأسدي من القراءة حدا أنه منع كتاب "الأسد: الصراع على الشرق الأوسط" لباتريك سيل (كتبه باتريك سيل بعد عدة لقاءات مع الأسد، ودفع الأسد له مصاريف الرحلات إلى دمشق والإقامة في فنادقها والسياحة وغيرها).

يذكر أن هذا الكتاب هو رواية حافظ الأسد نفسه عن الوضع في سوريا ولبنان خلال سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم. ولكن يبدو أن إدخال المؤلف بعض التحليلات والتفسيرات التي لم تعجب حافظ الأسد دفعته إلى منع الكتاب. على الرغم من أن رجالات النظام الأسدي كانوا يوزّعون الكتاب على زوارهم المقربين، كترويج للكتاب بين خاصة النظام. كان حافظ الأسد يفضِّل الكتب التي تمجده وتجعل منه بطلا مغوارا بدون أي تحليل عقلي أو واقعي، لأن مثل تلك التحليلات تكشف حجم الكذب والخداع بسهولة.

وكان أعضاء حزب البعث والجمعيات الفلاحية واتحاد العمال يُجبرون على شراء هذه الكتب ودفع ثمنها، كنوع من تأكيد الولاء، أو للتقرب زلفى من النظام. حتى أن عدد هذه الكتب بلغ نحو 100 كتاب تسرد حياة الأسد الأب وبطولاته، كما يقول نيقولاس فان دام في كتابه "الصراع على السلطة في سورية" (كتاب ممنوع ولم يقرأ السوريون إلا نسخة إلكترونية مهكرة بعد الثورة".

يذكر أن غالبية أصحاب دور النشر يقولون إن الكتاب المترجم مقروء أكثر من الكتب التي تؤلف من قبل مؤلفين عرب. وهذه مردها إلى أن الكتاب والباحثين في بلداننا يعانون من تراجع مستوى حرية الكتابة في مواضيع السياسة والمجتمع، بالإضافة إلى فساد المؤسسات الأكاديمية والجامعية المهتمة بالبحث والنشر. غالبية الكتب تُكتب بطريقة "تجزيء المشكلات" بحيث تعود مشكلة تردي أوضاع التعليم -مثلا- إلى انتشار الدروس الخصوصية، والبطالة إلى زيادة السكان الكبيرة، دون أي ربط بين هذه المشكلات والفساد الذي يدار بحنكة من القصر الجمهوري والمؤسسات الأمنية التابع له.

ولذلك تبقى مئات أطروحات الماجستير والدكتوراه حبيسة المكتبات الجامعية ولا يقرءها سوى زملاء الطالب، وبعض المهتمين بالموضوع. وتبقى الترجمة إحدى أهم العوامل التي تنشط القراءة في عالمنا العربي.

لم تعد القراءة عندنا سلوكاً يصاحب الفرد ليكتشف عبره العالم المحيط به، ويستمتع بتطوير شخصيته، ويفهم ظروفه، بل تحولت إلى مجرد وسيلة للترفيه وملئ أوقات الفراغ على قلتها. حتى أن بعض العائلات المسكونة بالخوف من النظام كانت تخشى على أبنائها عندم تلاحظ عندهم ميولا للقراءة فتراقب خلسة الكتب التي يقرأون. أما الكبار فقد أنشؤوا شبكات لتداول الكتب الممنوعة، على قلتها.

تحوّلت الكتابة إلى باب للشهرة أو الرزق أو الوجاهة حتى إن هناك عشرات من الكتب ليس لأي سبب، سوى أن أبواب دور النشر مفتوحة في وجهه..

أما أهم دارين للنشر في سوريا هما اتحاد الكتاب العرب ووزارة الثقافة السورية، وكانتا لا تنشران أبدا أي كتاب يتعلق بالسياسة في العالم العربي، أو الصراعات في المنطقة، أو أي كتاب يساعد السوري على فهم أوضاعه الراهنة. كانتا تنشران فقط الكتب التي تتناول العلوم والفيزياء والجغرافية والأدب والنقد الأدبي والفلسفة، وكل كتاب لا تؤثر مادته إطلاقاً على الوضع في سوريا. ناهيك عن الفساد الموجود في مثل تلك المؤسسات.، وانتشار كتَّاب متواضعين، كان يُطلق عليهم تندرا "يكتبون أكثر مما يقرؤون". ولذلك لم يجد السوري في منشورات هاتين الدارين ما يغريه سوى بعض كتب الأدب.

تحوّلت الكتابة إلى باب للشهرة أو الرزق أو الوجاهة حتى إن هناك عشرات من الكتب ليس لأي سبب، سوى أن أبواب دور النشر مفتوحة في وجهه. ومن هؤلاء الدكتور علي القيم معاون وزير الثقافة السابق، والعماد أول مصطفى طلاس وزير الدفاع السابق (له 16 كتاباً في التاريخ والشعر واللغة)، واللواء محمد إبراهيم العلي (روائي وقاص)، قائد الجيش الشعبي وله 22 كتاباً، إسكندر لوقا (ألّف حوالي 50 كتاباً)، والدكتور أسعد علي الذي زادت مؤلفاته على الـ30 كتاباً، ولا يستطيع أي سوري طبيعي أن يكمل قراءة غالبية كتبه (مزيج بين الصوفية والتأملات الذاتية والتلاعب باللغة).

ضمن هكذا وضع فقدت القراءة أهميتها. فأنت لا تقرأ إلا ما هو مسموح لك بقراءته، بل ما هو مطلوب منك أن تقرأه. وقد تضيِّع كثير من الوقت حتى تصل إلى ما تريد. مسموح لك قراءة ما تشاء من كتب التراث والأدب العربي، ولعل هذا ما يفسر الانتشار الواسع لهكذا نوع من الكتب.