الثورة السورية بين فكي اليسار والمجتمع

2023.08.03 | 06:47 دمشق

الثورة السورية بين فكي اليسار والمجتمع
+A
حجم الخط
-A

عاش المجتمع السوري قرابة خمسة عقود منذ تسلم البعث السلطة وهو يرزح تحت الاستبداد، عانى في أثناء ذلك أقسى صنوف القمع وكم الأفواه، بداية من تسلم الأسد الأب لمقاليد الحكم في البلاد وتأسيسه لتغول الجهاز الأمني وسيطرته على مقاليد الأمور، وصولاً إلى انتقال السلطة غير المشروع بتوريثه البلاد للابن.

بإمكاننا قسم الحقبة الزمنية إلى مرحلتين تختلف كل منهما عن الثانية بنواحٍ عدة، وتتشاركان بفكر الاستبداد وصناعة الدولة البوليسية المسيطرة على أدق تفاصيل الأمور.

بقي السوريون بشكل عام في مرحلة الأسد الأب مغيبين عن الإعلام أو معزولين تقريباً عن العالم، فلا وسائل اتصال حديثة ولا جرائد أو محطات تلفزة سوى المحطات الرسمية، ما كان سبباً رئيساً في عدم تكون حياة سياسية بالمعنى العلمي للكلمة، علاوة على ازدياد نشاط الأجهزة الأمنية وتغلغلها في المجتمع وصناعة الخوف الذي استبد بالسوريين بعد مجازر حماة في ثمانينيات القرن المنصرم.

منذ تسلم الأسد الابن السلطة اقتصرت الحركة السياسية على ربيع دمشق فحسب، التي اعتقل على أساسها أعلام ونخب التيارات السياسية التي اعتقدت بوجود حقبة سياسية جديدة، وفقاً لما روجت له السلطة في ذلك الوقت لتنحية من تتخوف من تحركهم من جراء التوريث، وهو بالفعل ما حصل.

بعد حملة الاعتقالات التي تلت ربيع دمشق كانت النتيجة أن عشش الخوف مجدداً في نفوس السوريين، وحُسم أمر الحراك السياسي تقريباً وعاشت البلاد بعد هذه الأحداث فترة ركود سياسي عام.

على الرغم من التضييق السياسي إلا أن الفترة التي تلت تسلم الابن السلطة شهدت انفتاحاً على وسائل الاتصال جعلت المشهد السياسي للعالم يبدو أقرب، لتتكون صورة سوريا مختلفة لدى الجيل الجديد بعد المقارنات مع الدول المجاورة وغير المجاورة، غير أن تلك الصورة لم تكن تتناسب مع حالة البلاد العامة وإحداثياتها السياسية.

تمتع الجيل الجديد بانفتاح على الثقافة السياسية وطموح كبير بإحداث تغيير حقيقي في سوريا، وربيع سوري يختلف عن ربيع دمشق الذي تحول خريفاً، لكن تلك الفئة بقيت تغرد منفردة مع غياب توجيه حقيقي في مشهد سياسي ضبابي، وانقطاع التواصل بن الجيلين وغياب وجود رؤية سياسية واضحة.

في فقه القانون هناك جرائم تحصل بالامتناع عن فعل أو تكون ناتجة عن الإهمال، وفي مراجعة بسيطة لا يمكن إخلاء مسؤولية اليسار السوري في عدم مد يد المساعدة وامتناعه عن إمساك زمام واجبه الاجتماعي وأداء دوره التوعوي

تبدو الحلقة المفقودة هنا هي السبب الحقيقي في المشكلة الحاصلة، وأزمة انقطاع جسور التواصل بين جيل يحتاج إلى رؤية سياسية ويفتقد إلى الخبرة، وجيل تمكن منه اليأس من محاولة تحقيق أي تغيير سياسي ملموس.

في فقه القانون هناك جرائم تحصل بالامتناع عن فعل أو تكون ناتجة عن الإهمال، وفي مراجعة بسيطة لا يمكن إخلاء مسؤولية اليسار السوري في عدم مد يد المساعدة وامتناعه عن إمساك زمام واجبه الاجتماعي وأداء دوره التوعوي.

عزز الخلاف بين السوريين الشرخ الذي عمل النظام على صنعه في المجتمع، وذلك ما نجح فيه النظام في معظم الأحيان فعانى المجتمع السوري من إقصاء المختلف والتخوف من أي شبهة بفكر ورأي سياسي مخالف.

أين كان المثقفون إذاً من كل هذا؟ هذا السؤال الذي يحق  للسوريين اليوم طرحه، وعلى أنه من الممكن تفهم حالة الإحباط من إحداث التغيير والشعور بعدم الجدوى بعد معاناتهم ظروف الاعتقال والنفي وما إلى ذلك من الوسائل التي استخدمها النظام لقمع معارضيه، لكن ما لا يحسب لصالحهم هو تصنيف ما حدث بعد الثورة السورية في عام 2011 بأنه حراك ديني ويفتقر إلى المدنية والتحضر، وهي الذريعة التي تبنتها الغالبية للنأي بالنفس عن المشاركة أو لإخفاء الانحياز إلى طرف معين.

فلا يخفى على أحد بأن أسلمة الثورة السورية كانت سلوكاً أمنياً خالصاً لتبرير البطش الأمني، وشماعة علق عليها اليسار في الوقت نفسه نأيه بنفسه عن المشاركة.

العاصفة الحقيقية التي ألمت بالمجتمع ربما كانت في انقطاع التواصل بين الجيل السياسي القديم والجديد في مرحلة معينة، هذه الفجوة الزمنية جعلت من الصعب التقاء الطرفين وتحديد رؤية موحدة، وهو أمر لا يمكن أن يتحمل مسؤوليته الجيل الجديد الذي لا يتمتع بخبرة سياسية، بل يمتلك الطموح والحماسة.

اكتفى اليسار السوري بمناهضة الاستبداد وفقاً لرؤيته الخاصة ولم يعمل على بناء جسور تواصل، أو محاولة جذب قاعدة جماهيرية اجتماعية أو توسيع قاعدته الشعبية، فكان أن أصبح غير مرحب به لدى عموم الشعب بناء على أفكار مسبقة نشرها النظام أو رافضو التغيير ولكنه لم يسعَ أيضاً إلى ردم الهوّة بشكل منظم ومدروس.

تكمن المشكلة في النضال السياسي بأن نفكر في تغيير رأس الهرم من دون   الالتفات إلى القاعدة، أو عدم محاولة العمل على التغيير في الاتجاهين وهو خطأ وقع فيه كثير من المؤسسات السياسية السورية، ما سبب وجود فجوة حقيقية بين العاملين في الشأن السياسي وعامة المجتمع.

ما يجري على الساحة السورية الآن لم يكن نتيجة أسلمة الثورة ونشأة التنظيمات الإرهابية التي ادعى العالم أنها واجهة الثوار السوريين، فاللعبة باتت أكبر من ذلك وانتقلت لتخرج عن إطار اللاعبين السوريين وتتعداها إلى لاعبين إقليميين ودوليين

إن مهمة النخبة هي النهوض بالمجتمع لا التعالي عليه ونفي التهمة عن مسؤوليتهم في رداءة الوضع الذي وصل إليه، فإذا كان هذا السوء قد أودى بالبلاد إلى الحرب بسبب قلة الوعي السياسي فإن ذلك تتحمل مسؤوليته النخبة لأنه من الحكمة عدم الانسحاب وترك الساحة خالية للاعبين الآخرين الذين سيحصدون النسبة الكبرى من الولاءات.

ما يجري على الساحة السورية الآن لم يكن نتيجة أسلمة الثورة ونشأة التنظيمات الإرهابية التي ادعى العالم أنها واجهة الثوار السوريين، فاللعبة باتت أكبر من ذلك وانتقلت لتخرج عن إطار اللاعبين السوريين وتتعداها إلى لاعبين إقليميين ودوليين في وقت لم يعد الرأي السوري فيه مؤثراً.

انحراف الثورة لم يكن بيد السوريين فقط، بل أراد العالم أجمع أن تبدو الثورة بهذا الشكل المشوّه، لكن ذلك لا يمكن أن يلغي حركة تغير المجتمعات لأنها حتمية تاريخية، فقد كان من المحتم حدوث انفجار في وقت معين أياً كان الشكل الذي يتخذه.

مهما كان مسار الحراك السياسي في سوريا اليوم فإن مقتله الحقيقي يكمن في الندم، لأنه من الحريّ تحريك المستنقع الراكد منذ عقود ليعاد تشكيل وعي وفكر سياسيين، من أجل تبين مواضع الضعف في المجتمع وفي عمل الأحزاب السياسية المختلفة.