الثقافة السياسية للسوريين.. قصة فشل معلن

2022.06.01 | 05:59 دمشق

2020115234150330ir.jpg
+A
حجم الخط
-A

تعد "الثقافة السياسية" المنتشرة بين السوريين من العوامل التي عرقلت الوصول لما يسمى في السياسة "الحد الأدنى المشترك" الذي عادة ما يتوصل إليه شعب ما عندما يختلف الناس ويشتد الصراع بينهم حول مستقبلهم، وشكل المجتمع الذي يعتقدون أنه سيلمهم ويوفر لهم العيش بسلام وكرامة. ولكن لماذا لم ينجح السوريون إلى الآن في التوصل إلى هذا "الحد الأدنى المشترك" الذي توصلت إليه باقي الشعوب عندما عاشت أزمات لا تقل صعوبة عن أوضاع السوريين الحالية؟

لقد تمكنت شعوب كثيرة خلال التاريخ الحديث، والعقود القليلة الماضية أيضا، من تجاوز صراعات كبيرة عاشتها، مزقت نسيجها الاجتماعي، وخلفت بحورا من الدماء، عبر عقد نوع من التسويات المصيرية التي قدم فيها مختلف مكونات المجتمع تنازلات تاريخية لم يكن يتصورون أنهم سيقدمون عليها في يوم من الأيام، ولكن دوامة العنف التي بدت أنها بلا نهاية هي ما دفعت الجميع لفهم "الاختلافات" العميقة بينهم في العقائد والمصالح. هذا ما حصل في جنوب أفريقيا والهند والبوسنة ودول أخرى كثيرة. وما حصل أيضا في أوروبا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

بالنسبة للوضع في سوريا الحالية فإنه من الواضح أن النظام حسم خياراته منذ اليوم الأول من الثورة، وقرر القتل حتى آخر رمق وإغلاق باب التسويات بشكل نهائي إلا إذا أجبر على ذلك، وهو الآن في وضع لا يسمح بالقول إنه سيضطر قريبا للإقدام على عقد تسويات من نوع ما.

لقد وصلت شهوة تسلط السوريين على بعضهم بعضا إلى مستويات عالية لدرجة يصعب معها تصور وجود إمكانية لحياة مشتركة بينهم

أما الوجه الآخر للمشكلة فهو السوريون أنفسهم. إذ يعتقد غالبيتهم أنهم هم الطرف المظلوم والمقهور والخاسر والذي قدم أكبر قدر من التضحيات، وأن الأطراف الأخرى هي الظالمة والقاهرة واللاوطنية واللاأخلاقية. كلٌّ يعتقد أن الآخر هو من جلب التدخل الأجنبي ويستقوي به على الآخر، وأنه هو المسؤول عن العنف والإجرام الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ سوريا، القديم منه والحديث.

لقد وصلت شهوة تسلط السوريين على بعضهم بعضا إلى مستويات عالية لدرجة يصعب معها تصور وجود إمكانية لحياة مشتركة بينهم. كما أن حالة عدم الثقة التي أخذت تنتشر بينهم انتشار النار في الهشيم، لتطول كل المجالات: العقائد والتاريخ والأصول الاجتماعية والقومية والمذاهب الدينية والانتماءات الطائفية، حتى نسي غالبيتهم أن مشكلتهم هي بكل بساطة "مشكلة سياسية" تتعلق بحكم غير العادل، وما نتج عن ذلك من مشكلات تتعلق بالفقر وحرمان السوريين من حقوقهم وأرزاقهم وهدر لكرامتهم.

تعد قضية تحويل المشكلات السياسية الحياتية، التي تتعلق بالحكم الفاسد والعدالة الاجتماعية والحريات السياسية، إلى مشكلة تاريخية أو حضارية أو دينية أو طائفية أو قومية من القضايا التي تستهلك تفكير السوريين السياسي (وهي طريقة زائفة، أي تقوم بتزييف أصل المشكلات). بحيث تتحول تلك المشكلات إلى قضايا تتطلب نقاشات وحوارات ومماحكات تطول الأديان والقوميات والاستعمار والمؤامرات، والدولة الأموية والعباسية، والخلاف المشهور بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، لتمتد إلى خلافات تتعلق بتفسير القرآن وعلوم أصول الفقه وقضايا علم الكلام، ناهيك عن الخلافات حول فترة الحكم العثماني وسياساته، وتجربة الوحدة، والموقف من جمال عبد الناصر.

وهنا يمكن أن نتوقف عند قضيتين نعتقد أنها تضخمتا كثيرا ولا يجوز للسوريين إهمالهما في هذه الأوقات الصعبة التي يعاني منها الجميع.

تتعلق القضية الأولى بارتفاع معدلات عدم التسامح وعدم الثقة. إذ يعد التسامح من أهم القيم التي يجب على الجميع التحلي بها في زمن الاقتتال. ومنذ أيام جون لوك، مؤلف كتاب رسالة في التسامح، والشعوب تدرك أنه في زمن الصراعات والحروب لا حلول بدون ثقافة التسامح، على الرغم من أن التعصب والكراهية تكون قد وصلت إلى مستويات عالية. وهذا يعني على السوري أن يدرك اليوم بأن دعوته للتحلي بالتسامح ليس حديثا ناعما أو مثاليا أو تقليعات رومانسية، بل هو خيار حقيقي في زمن عصيب، لا سيما أن جون لوك نفسه كتب رسالته في التسامح وهو مطارد وخائف على حياته، وفي زمن كانت فيه الخلافات بين الأوروبيين في أوجها (القرن السابع عشر). على السوريين إدراك أن عدم تسامحهم تجاه بعضهم بعضا ليس ناتجا عن أن الطرف الآخر سيئ أو لا أخلاقي، بل يعني أن كلاً من الطرفين ضحية لسنوات من القهر والتسلط جعلت منهم أشخاصا غير متسامحين ولا يثقون بالآخرين. فالتحرر من النظام الأسدي وسنوات الظلم وقلة القيمة لا تترجم فقط بالوقوف ضد هذا النظام، بل بالتحرر- أيضا- من الوضع الذي وضعنا به ذلك النظام وجعلنا مجموعات تتحاسد وتتغاير ويخاف بعضها بعضا، لغاية في نفسه.  

أما النقطة الثانية فهي عدم الثقة بالديمقراطية. إذ لم يحسم كثير من السوريين مسألة اختيارهم للديمقراطية كنظام شامل يقبل به لمجتمعه ويدافع عنه بكل خيره وشره. وهو ما يسمّيه إيرك فرام "الخوف من الحرية" أو "الهرب من الحرية" الذي تعاني منه الشعوب عندما تتعود على العيش في ظل نظام تسلطي لفترة طويلة وتتشرب الأفكار التي عن طريقها تم تخويفها من الحريات والحقوق. فالحرية اليوم ما زالت لدى عدد كبير من السوريين متعلقة بالديمقراطية الغربية والانحلال الأخلاقي والرأسمالية المتوحشة، وهي صورة سلبية دفع النظام السياسي الأسدي والمشايخ المرتبطين به، وحتى المعارضين له، وكذلك اليساريون سنين طويلة من عمرهم لترسيخها في أذهان السوريين.

نسي الجميع أن الدولة الحديثة في النهاية هي كيان للجميع، وأن مهمتها وسبب وجودها أن تحمي الجميع من الجميع وتكون حيادية تجاه الإثنيات والأديان والمذاهب والعقائد

وهذا أثر كثيرا على تصور السوريين للدولة التي يعتقدون أنهم بحاجة إليها لكي يستمروا بالحياة. إذ يريد كل طرف أن يفصّل دولته على مقاسه وكأنها ملك له ولأحلامه السياسية، وكأنه يريد أن يستقوي بها على الآخرين. فالعلماني يريدها علمانية، والمسلم يريدها إسلامية، والعربي يريدها عربية، والكردي يريدها كردية، حتى إن بعضهم يريدها دولة تقوم على المحاصصة الطائفية. ونسي الجميع أن الدولة الحديثة في النهاية هي كيان للجميع، وأن مهمتها وسبب وجودها أن تحمي الجميع من الجميع وتكون حيادية تجاه الإثنيات والأديان والمذاهب والعقائد. 

يبين لنا التاريخ أن التفكير السياسي يقوم على الدمج والتقريب بين ثنائيات متصارعة. تقريب بين منافع الحياة والمثل العليا (جون ستوارت ميل)، بين حميمية الحياة الاجتماعية والفردية الغربية المفرطة (إدغار موران)، بين الأديان والحريات (الفلسفة الأميركية)، بين التراث والحداثة (الجابري)، بين الديمقراطية والقومية (عزمي بشارة)، بين الأقليات والأكثرية (إمارتيا صن). وهذه التسويات غالبا ما تتم على قواعد أساسية على الجميع أن يقتنع بها أولا. وأولى هذه القواعد هي الرغبة في العيش المشترك، وثانيها الإيمان بالإنسان بوصفه غاية، وثالثها النظر للحياة بوصفها مصنوعة من قبلنا وليست معطى علينا أن نعيشه كيفما كان، والرابعة أن قيم العدل والخير العام والمساواة هي قيم يدافع عنها الإنسان منذ آلاف السنين وستبقى ما بقي الإنسان. وبدون هذه المشتركات ستبقى الأمور مستعصية على السوريين. لا سيما أن التاريخ يشير أيضا إلى أن تبني مثل تلك القواعد وعقد تسويات بين ثنائيات متناقضة حصل مع شعوب لم تكن أحسن حالا من وضع السوريين اليوم.