التنمر الإلكتروني.. من التنافس إلى التحطيم

2023.02.23 | 06:37 دمشق

التنمر الإلكتروني.. من التنافس إلى التحطيم
+A
حجم الخط
-A

ذات يوم قرر مهندس معلوماتية سوري يعيش في بلد أوروبي التحقق من عمليات التصويت الإلكترونية المشاركة في اختيار تسمية أيام الجُمع في صفحة "الثورة السورية ضد بشار الأسد".. فقد لاحظ المهندس الشاب أن المشاركين في التصويت يختارون التسميات ذات الدلالة الإسلامية، رغم أن قسما كبيرا منهم بعيدين عن التوجه الديني..

وبعد بحث استغرق بضعة أسابيع اكتشف مهندس المعلوماتية الشاب أن الجيش الإلكتروني التابع للمخابرات السورية (كان يرأسه شخص من بيت إسماعيل) يشارك بقوة في التصويت على أسماء الجُمع، الأمر الذي كان يرجّح اختيار الأسماء ذات الطابع الديني لجُمع الثورة.

هل يقدم ما سبق صورة ما وإن كانت فريدة ووحيدة على حد معرفتي عن مدى تعقيد المشهد السياسي الإعلامي منذ بداية الثورة، وبالتالي على مدى التعقيد الذي صار إليه اليوم تصارعا داخليا واختراقا خارجيا.

رب قائل إنها عقدة المؤامرة تطل علينا من جديد، هذا صحيح، فلا سياسة دون مؤامرة، بل لا حياة تخلو من نوع ما أو درجة ما من التآمر والخداع.. فماذا لو كنا في سوريا، وفي حال صراع مكشوف في كل المستويات.. فلماذا يجب أن تكون حرب الوسائط الإلكترونية بعيدة عن جو التآمر والاختراق؟؟

الجيش الإلكتروني الأسدي أسهم بشكل فاعل في اختيار أسماء جُمع الثورة، ليقدم صورة للرأي العام العالمي عن توجه إسلامي راديكالي للثورة

قديما قيل إن الشك من حسن الفطن، ما يعني أن حسب المرء بلادة وسذاجة ألا يشك في إمكانية تعرض شخصية إعلامية ناجحة مثل السيدة نور حداد وبرنامجها "نور خانم" لهجمة مدبّرة تطولها (وتطول بشكل غير مباشر من خلفها تلفزيون سوريا الذي كانت تعمل لديه)، مثلما طالت من قبل صفحة الثورة السورية ضد بشار الأسد، فالجيش الإلكتروني الأسدي أسهم بشكل فاعل في اختيار أسماء جُمع الثورة، ليقدم صورة للرأي العام العالمي عن توجه إسلامي راديكالي للثورة من ناحية، ومن أجل أن يرجح كفة المشرفين على الصفحة- التي يقال إنها إخوانية-، ومن أجل تغذية التوجه الديني عند جمهور الثورة.. تمهيدا لتهيئة تربة خصبة تناسب المجموعات الإسلامية، التي كان النظام يعدّها في سجونه لتنطلق من هذه التربة باتجاه العمل المسلح.

لماذا الهجوم على إعلامية ناجحة.. من الفاعل وما الغاية؟

الهجوم على الإعلامية نور حداد لم يبدأ اليوم، بل بدأ منذ سنتين، منذ أن كانت تقدم برنامجا ناجحاً في تلفزيون سوريا هو برنامج "نور خانم".

لم تكن مشكلة المتنمرين الإلكترونيين مع نور يومها أنها سافرة، فهي كانت آنذاك محجبة، وكان حجابها يزيدها جمالا، على الأقل بالنسبة للبعض- وهذه مسألة نسبية تتعلق بالأذواق-، كنت يومها أتابع بعض التعليقات على بعض حلقات برنامجها نور خانم المنشورة على اليوتيوب، وكان أغلبها تعليقات سخيفة لئيمة واعظة، بعضها جارح، وأغلبها طافح بالجهل والغيرة والتعالي.

لكن كثافة التعليقات وإن كان أغلبها سلبياً تقدم دليلا على نجاح برنامج نور، نجاحها هي بشخصيتها المحببة الذكية ولهجتها المميزة.. كما يمكن أن تكون دليلاً على وجود مجموعة متضامنة ممن يؤذيهم نجاحها، متفقين على إزعاجها والتأثير عليها نفسيا عبر تلك الهجمة من التعليقات.. وكنت أتساءل لماذا لا يلجأ المشرفون على موقع القناة على اليوتيوب إلى إغلاق خاصية التعليق.

لكن الجواب طبعا سيكون أنها -أي التعليقات- هي التي تأتي بمزيد من المتابعين للبرنامج، وهذا صحيح تبعا لآلية الانتشار في قناة يوتيوب، لكني كنت أتساءل أيضا هل يمكن التضحية بمشاعر مقدمة البرنامج والتغاضي عن جرح كرامتها مقابل متابعات أكثر؟

ما زلت أستغرب كيف أن تطبيق يوتيوب لا يوفر إمكانية الاحتجاج على تعليقات عنصرية تنال من مشاعر أو كرامة صانعي المحتوى، ولا تقوم بفلترة التعليقات، فلا يمنع المتنمرين الإلكترونيين من التعليق، ولا يوجه لهم إنذارات، يعقبها -ربما- ملاحقتهم قانونيا.

الغاية واحدة تدمير كل شخص ناجح مبدع متفوق وتشويه وتخريب كل مؤسسة ناجحة طموحة تشكل قيمة وإضافة

حاولت من خلال تلك التعليقات تكوين صورة مفترضة عن هؤلاء المعلقين: دراستهم، ثقافتهم، عملهم، توجههم السياسي أو الفكري، منبتهم الاجتماعي.. وكنت مقتنعا ومازلت أن هؤلاء ينقسمون إلى مجموعتين أساسيتين: مجموعة يشعر أفرادها بالغيرة ويتعمدون الإساءة بأي طريقة، ومجموعة محترفة أو فريق عمل على شاكلة "جيش إلكتروني" يستهدف ليس نور تحديداً، بل المؤسسة التي تعمل فيها نور، فهو عبر الضغط المتواصل عليها يستهدف زعزعة ثقتها بنفسها وإرهاقها نفسيا لدرجة تجعلها تكره عملها أو برنامجها فتقدم لاحقا بعد تراكم الضغط والتوتر على إيقافه، والاعتذار عن العمل.

إنها باختصار عملية تطفيش.. طالما سمعنا عنها وعايشناها في دوائر ومؤسسات سورية الأسد.. فلا تختلف ذهنية الطرفين ولا غايتهما باستهداف المبدعين والناجحين.. الغاية واحدة تدمير كل شخص ناجح مبدع متفوق وتشويه وتخريب كل مؤسسة ناجحة طموحة تشكل قيمة وإضافة.

هذا الأمر لم يقتصر على سوريا الأسد، بل هو مستمر في سوريا الثورة للأسف، فالحامل الاجتماعي واحد في بنيته العميقة الثقافية والفكرية والأخلاقية وإن اختلف الموقف السياسي بين السوريتين.

قد يقول قائل أليس من الجائز أن يكون "طرفاً إلكترونيا" تابعا للنظام هو من يهاجم، هذا احتمال وارد جدا، لكنه لا يفسر الظاهرة برمتها، فالمتوقع أيضا وجود مجموعات تحسب نفسها من الثورة والمعارضة تمارس ذات ممارسات شبيحة الأسد الإلكترونيين ومجموعاتهم المتنمرة الإلكترونية.. لأسباب تتعلق "بالتنافس" بين مؤسسات وجهات وتوجهات متباينة، تصل حد التحطيم المعنوي والإساءة المتعمدة لكل القيم الإنسانية والأخلاقية مضافا إليها قيم الثورة التي يفترض أنها في مستوى أرفع وأكثر تقدماُ.

ليست القصة هنا سياسية إلا باستهدافاتها غير المباشرة، إنما القصة هنا أخلاقية أولاً.

أما التنمّر الإلكتروني على الإعلامية حداد حتى بعد إعلانها الشجاع مؤخرا أنها تعاني من مرض نفسي.. فهو في اعتقادي يرتقي لمستوى العمل الجرمي المقصود، وفي هذه الحال من المستحسن رفع شكوى لملاحقة هؤلاء المتنمرين وتحديد هوياتهم تمهيدا لمحاسبتهم قانونيا، وهو حق وواجب لا يجب التهاون فيه ولا التنازل عنه علّه يردع جماعات التنمر الإلكتروني المتسكعة في أزقة عالم افتراضي يصبح يوما بعد يوم أكثر تفاهة ووحشية.