icon
التغطية الحية

التكسي وبيع الدور.. بعد توقف "التعفيش" كيف يعيش مرتدو البدلة العسكرية بدمشق؟

2024.01.06 | 05:05 دمشق

التعفيش
سلب المدن والبلدات كان أحد أساليب عناصر قوات النظام لتأمين معيشتهم والثراء
دمشق – حنين عمران
+A
حجم الخط
-A

توقف معظم الدخل الذي كان عناصر قوات النظام يتحصلون عليه بعد انتهاء العمليات العسكرية واجتياح المدن والبلدات، فكان "التعفيش" وإتاوات الحواجز و"الترفيق" وغيرها من طرق السلب تمثل حينها دخلا للملتحقين بقوات النظام أو الميليشيات التابعة له. وتضاءل الآن هذا العائد وتحول القسم المتبقي منه للقادة والرتب العليا.

وترك النظام عناصر قواته براتب لا يذكر يكابدون وسط أسعار ملتهبة وغلاء فاحش لتدبر أمر معيشتهم ومعيشة أسرهم، فلجأ من لم يستطع خلع البدلة العسكرية إلى طرق متعددة لتأمين ما يسد الرمق، فالرواتب التي يمنحها النظام لجنوده لا تزيد على 600 ألف ليرة سورية في أفضل الأحوال (ما يعادل 42 دولاراً) الأمر الذي دفع بالمجندين إلى ممارسة مهن مختلفة في أثناء إجازاتهم أو حتى بعد انتهاء وقت دوامهم اليومي.

 

رقيب أول في المفرزة وسائق تكسي بعد الدوام:

تطوع (عماد محمد) بعقد عمل لمدة 5 سنوات (قابل للتجديد حتى 30 عاماً) مع فرع أمن الدولة الكائن بإدارته في منطقة كفرسوسة، وقد جاء قرار تطوعه كبديل عن الالتحاق بالخدمة الإلزامية، ولكون الرواتب عند العمل بعقد "تطوع" أفضل من راتب المجند المُحتفظ به. يقول عماد لموقع تلفزيون سوريا: "درست معهد هندسي، ثم تطوعت، وقد وصل راتبي الشهري إلى 550 ألف ليرة سورية في الوقت الحالي (يعادل 40 دولاراً) ثمّ فرزت للعمل في مفرزة الحراسة التابعة للسفارة الروسية".

يعمل عماد أسبوع كامل لمدة 6 ساعات يومياً، ويأخذ "إجازة" الأسبوع الذي يليه كاملاً، أي دوام: أسبوع بأسبوع. ويخرج بعد انتهاء وقت الدوام للعمل على سيارة عمومية "تكسي" حتى ساعات الليل المتأخرة كل يوم. يقول: "أنا لست متزوجاً، لذلك أستطيع إعالة نفسي بالحد الأدنى من متطلبات الحياة بالعمل الإضافي خارج ساعات الدوام، ولا أفكر بالزواج وأنا في هذه الحال، الأمر مستحيل". وينوي عماد حسب قوله، السفر إلى خارج سوريا بمجرد الانتهاء من العشر سنوات الأولى في عقد عمله.

"التفييش" مهنة الضباط ذوي الرتب الرفيعة:

يتعلم الملتحقون بصفوف النظام كيف يكونون انتهازيين واستغلاليين لا لأنهم يحبون ذلك بالضرورة، بل لأن ذلك سلوك مكتسب تفرضه البيئة العسكرية القاسية بما فيها من إذلال وفقر وعدم الكفاية.

بلقاء لتلفزيون سوريا مع أحد المجندين (سليمان.ع) الذي خدم لمدة سنة ونصف إلزامية ثم تبعها ست سنوات احتفاظ، أخبرنا أنّه استطاع خلال سنوات خدمته كلها "التفييش" بدفع مبالغ كبيرة للضابط المسؤول، يقول: "يمكنني القول أنني خلال سنوات خدمتي كلها، داومت ما مجموعه سنة أو سنة ونصف بشكل متقطع، إذ كنت أدفع للضابط المسؤول عني (النقيب فايز) عن كل شهر أغيب فيه، وأداوم فقط في يوم توقيع إجازتي وتسليمه المبلغ الذي يطلبه".

ويذكر سليمان أن لدى النقيب فايز، أربعة إلى خمسة عناصر "مفيشين" كل شهر، وبحسبة بسيطة يكون لدى فايز وسطياً نحو 3 ونصف مليون ليرة سورية شهرياً من امتهان "تفييش العناصر" واستغلال ظروفهم، وهو رقم قابل للزيادة عند وجود حالات طارئة لدى أحد المجندين يضطر فيها إلى أخذ إجازة. يتابع سليمان: "تمّ تسريحي بعد قرار تقليل عدد سنوات الخدمة الإلزامية إلى 6 سنوات، وسأستلم بطاقتي المدنية في بداية شهر شباط القادم، لكن بجرد سريع لسنوات الخدمة في الجيش، تبين لي أنني دفعت قرابة الـ 36 مليون ليرة سورية للضباط المسؤولين عني حتى أستطيع البقاء في المنزل وممارسة الحياة المدنية، والأهم من ذلك هو عدم إيقاف مهنتي في الحلاقة الرجالية أو الاضطرار إلى إغلاق الصالون الخاص بي".

يواسي سليمان نفسه بالقول: "لقد اشتريت سلامتي وحياتي الطبيعية بعيداً عن ذلّ العسكرية بتلك المبالغ التي كنت أدفعها".

دهّان في أيام الإجازة من قسم الشرطة:

يعمل المساعد (حسام.ج) في مكتب الدراسات في قسم شرطة الميدان في دمشق، بدوام أربعة أيام في الأسبوع يليها 3 أيام إجازة، يقول في لقاء مع موقع تلفزيون سوريا: "أعمل في أيام إجازتي مع أخي في (ورشة) لديكور المنازل بما في ذلك الدهان وديكور الأسقف المستعارة، حتى أستطيع إعالة نفسي وأطفالي الثلاثة". علماً أنّ راتبه لا يتجاوز الـ 260 ألف ليرة سورية (ما يعادل 18 دولارا). يتابع حسام: "كنت أُحصِّل مبلغاً جيداً كل شهر من عملي في ورشة الديكور، لكن في الآونة الأخير أصبح العمل شبه ميت، لذا أبحث عن عمل آخر كسائق لأنني أمتلك شهادة قيادة".

معضلة الحياة المدنية بعد التسريح:

التحق (يامن) بالخدمة الإلزامية ليتم الاحتفاظ به مدة تسع سنوات، ثم جاء قرار تسريحه مع بقية أفراد دورته قبل أربعة أشهر تقريباً، ويواجه يامن حالة من الضياع والانفصال عن الواقع بعد أن قضى خدمته العسكرية في مناطق شهدت اشتباكات بريف حمص، على الرغم من محاولاته الإبقاء على عقله بممارسة موهبته الرسم.

يقول يامن لموقع تلفزيون سوريا: "أحياناً أشعر بأنّ التسريح هو نقمة لا نعمة كما يعتبره البقية؛ لا أدري ماذا أفعل بعد هذا القرار فلا عمل لدي ولا حتى أصدقاء في الحياة المدنية ولا أستطيع السفر لكوني لا أملك المال لذلك. لقد أعطوني تعويضاً قدره مليون وسبعمئة ألف لكنه لم يكفِني حتى لشراء موبايل جديد بكاميرا جيدة لتصوير لوحاتي وعرضها على مواقع التواصل".

يقوم يامن باستقبال طلبات رسم الوجوه "بورتريه" عبر حسابه الشخصي على الإنستغرام، ويبيع اللوحة بمبالغ تتراوح بين 150 و250 ألف ليرة سورية، أو بـ 50 ألف ليرة سورية للوحات البسيطة والسريعة، مع أن عدد متابعيه لا يتجاوز الـ 1000 متابع. يقول: "أحاول الانخراط في الحياة المدنية من جديد من خلال النزول إلى الشوارع العامة وعرض لوحاتي أو الوجود في تجمعات الشباب الثقافية والفنية في دمشق، في مناطق مثل الشعلان وباب توما وباب شرقي".

ويعاني يامن من اضطراب الصدمة حسب طبيبه النفسي الخاص الذي يزوره بين الحين والأخير في عيادته في الصالحية بدمشق، كما أنه يعاني من اكتئاب شديد وهو ملتزم بالعلاج الدوائي منذ سنة ونصف على حسب قوله.

تأمين الخبز وتعجيل الدور: مهنة المتطوع في كتائب البعث

يُحارب السوريون في مناطق سيطرة النظام بمقومات الحياة الأساسية؛ إذ أصبح انقطاع مادة أساسية أو "رفع الدعم" أو زيادة الأسعار بين الحياة والآخر، منهجاً للنظام من أجل إذلال السوريين وحصر طموحاتهم بلقمة العيش ولتر المازوت وعبوة الغاز, لكن الأمر الذي لم يكن في حسبان السوريين هو تحويل فكرة تأمين "ربطة الخبز" إلى مهنة يتقاضى عليها أفراد ميليشيات النظام أموالاً.

في وسط دمشق استغل عناصر كتائب البعث التابعين لشعبة المدينة الثالثة في منطقة باب مصلى، اللباس العسكري لتسيير شؤون المواطنين لقاء رشوة تتراوح قيمتها بين 5 آلاف ليرة سورية حتى 200 ألف ليرة، ويشمل ذلك: أخذ دور سريع في الطابور أمام إحدى الدوائر الحكومية مثل النافذة الواحدة أو السجل المدني أو لجان الفحص الطبي، أو أعمال أخرى مثل: الحصول على الخبز بالبطاقة الذكية دون الحاجة إلى الوقوف في طابور المخبز.

وفي لقاء مع السيدة (أم عبيدة)، تتحدث لموقع تلفزيون سوريا كيف استطاعت الحصول على البطاقة الذكية من المركز الموجود في منطقة باب مصلى والتابع لشعبة المدينة الثالثة قبل إغلاقه ونقله إلى مناطق أخرى، تقول: "ساعدني المدعو (أبو رضا) في الحصول على البطاقة الذكية دون عناء يُذكر مقابل مبلغ 20 ألف ليرة سورية آنذاك، ولم أحتج في حينها إلى انتظار الدور حتى".

وتذكر أم عبيدة أنّ أبو رضا لا يزال حتى الآن يستغل اللباس العسكري لتسيير معاملات صغيرة أو كبيرة "من تحت الطاولة"، وأنّه يساعدها في الحصول على الخبز كلما احتاجت إليه، تقول: "أترك بطاقتي الذكية لديه، ويخبرني حينما يحضر لي الخبز، فهو يستطيع بلباسه العسكري الوصول إلى داخل المخبز دون الوقوف على نافذة المخبز والانتظار في الدور، وأدفع له شهرياً مبلغ 60 ألف ليرة سورية، وهو مبلغ أقل بكثير من كلفة شراء الخبز السياحي ودون عناء الانتظار في طابور الخبز".

استطاع موقع تلفزيون سوريا الحصول على معلومات حول ما يتقاضاه الملتحقين بكتائب البعث، وتبين أنها تقدر بـ 80 ألف ليرة شهرية (ما يعادل 5 دولارات)؛ ولا يطلقون عليها مسمى "الراتب الشهري" بل هي مكافأة شهرية عن "المهمة الحزبية"، وقد يتأخر تسليم هذه المكافآت لأشهر عديدة بسبب نقص التمويل وعدم وجود "كتلة مالية" في فروع حزب البعث.