التقاليد الملكية البريطانية

2022.09.20 | 06:26 دمشق

التقاليد الملكية البريطانية
+A
حجم الخط
-A

لعل واحدة من محاسن جيلنا التعس هذا، الذي عاصر أغلب كوارث العالم جمعاء، أننا نشاهد التتويج الملكي البريطاني، الذي لم يحصل منذ 70 عاماً، مع العلم أنه حينما حصل في عام 1952 أثناء تتويج الملكة إليزابيث الثانية التي رحلت مؤخراً، كان البث التلفزيوني والإعلامي في بداياته، ولم يتابعه إلا القلة من أصحاب أجهزة التلفاز حينئذ.. صحيح أن مشاهدة حدث مثل هذا لن تقدم أو تؤخر شيئاً في حياة أي إنسان على هذه الأرض، ولكن التجربة البريطانية تستحق فعلاً التأمل والاحترام، بالطبع سيخرج بعض الغاضبين ليعبروا صراخاً عن رأيهم بأن بريطانيا بلد إمبريالي استعماري دمر العالم الثالث، ولكني أتحدث عن بريطانيا من وجهة نظر البريطانيين، ومن منظورهم السياسي، لا من منظورنا السياسي والأخلاقي نحن أبناء الضفة الأخرى من المتوسط..

فكيف لبلد صغير لا تتجاوز مساحته 243 ألف كم، أن يحكم ثلث العالم في يوم ما، بتعداد شعبي قليل، وموارد محدودة، لا بد للشعب البريطاني أن يكون فخوراً بمنجزه ومنجز حكامه، الذين تخلوا رويداً رويداً عن السلطة المطلقة وغيروا النظام الإقطاعي الملكي، الذي كان يحكم الأرض وما فوقها وما تحتها، وأعلنوا الملكية الدستورية، التي تمنح السلطات الكاملة للشعب، الذي ينتخب بدوره حكومة تدير شؤون البلاد، ويكون رأسها هو رأس السلطة التنفيذية في البلاد وكلمته هي الكلمة العليا حتى على الملك نفسه.

لكن هذا لا يعني إلغاء الدور الملكي الذي تميزت به هذه الدولة، فهم يفتخرون بملكيتهم العريقة التي تمنح البلاد عراقة مستمرة لا نظير لها في الأرض، فالبلد الذي يحكم بدستور غير مكتوب، وأعراف وقوانين ثابتة ثبات الأرض، ابتداءً من إعلان "الماغنا كارتا" في عام 1215.

صناديق الاقتراع هي الحل دوماً، وهي صاحبة الكلمة الفصل، وعلى من يرغب في أن يروج لقضية سياسية أن يقنع الشعب بها، لا أن يرفع السلاح من أجل إخضاعهم

حيث يتم الانتقال السياسي في السلطة بكل سلاسة وثبات رغم كل ما تتعرض له البلاد من هزات ومشكلات أساسية وجذرية تبدو أنها مرشحة لزعزعة البلاد من جذورها، فأزمة الخروج من الاتحاد الأوروبي، شرخت البلد أفقياً، وأزمات كوفيد والغزو الروسي لأوكرانيا، والتضخم الاقتصادي المنذر بكساد كبير، كلها أمور تهدد حياة البريطانيين بشكل يومي وثابت، وتمنح دعاة الانفصال عن التاج أسباباً ليستمروا، وتدعو أصحاب نظرية جمهرة بريطانيا وإلغاء الملكية ككل.. أيضاً دعماً إضافياً..

ولكن كل هذا لم يحدث، في بلد يمارس أعرق وأعلى درجات الديمقراطية، حيث لا موجب مطلقاً لحمل السلاح بين أبناء البلد الواحد من أجل مطلب سياسي، فصناديق الاقتراع هي الحل دوماً، وهي صاحبة الكلمة الفصل، وعلى من يرغب في أن يروج لقضية سياسية أن يقنع الشعب بها، لا أن يرفع السلاح من أجل إخضاعهم.

وهكذا مضت بريطانيا في سياساتها الاستعمارية من أجل سلب ثروات المستعمرات، لغرض بناء بلادها وليس لتكديس الثروات لدى الحاكم فقط، ومع ذلك فخلال عهد الملك جورج الثالث تخلت العائلة المالكة عن عدد كبير من أملاكها، التي تتضمن قصوراً وإقطاعات وأراضيَ شاسعة واستثمارات كبيرة، للحكومة البريطانية، أي لاستملاك الشعب، وللفائدة العامة، وكان هذا في عام 1760، في مقابل منح سيادية تعطيها الحكومة للعائلة المالكة سنوياً، وهي مبالغ ضخمة بالفعل.. إذ إن القانون البريطاني يحمي المُلكية الخاصة منذ قرون، وأملاك العائلة المالكة متوارثة منذ ألف عام تقريباً ومدعومة بصكوك ملكية مقيدة رسمياً ومعترف بها، وبما أن الدولة البريطانية دولة تقاليد وقانون تنظم العلاقات داخل أراضي الدولة، فالعائلة المالكة مشمولة بهذا القانون، وعليه فإن الملوك البريطانيين يدفعون الضرائب مثلهم مثل أي مواطن آخر.. ويشملهم التفتيش الضريبي أيضاً.. فالمنح السيادية التي تصل إلى 120 مليون دولار سنوياً تصرفها العائلة المالكة، لا تمثل إلا جزءاً بسيطاً من الأرباح التي تدرها الدولة البريطانية من الاستثمارات الملكية والترويج والسياحة الملكية، التي تصل إلى أربع مليارات دولار سنوياً.

بمعنى آخر لا يوجد تفصيل صغير في التقاليد الملكية يرتبك أمامه المنظمون لعملية الانتقال، فكل شيء في مكانه و كل شيء معد ومعروف للفريق الملكي، الذي يحرك الملك وبقية أفراد العائلة المالكة مثل أحجار الشطرنج، وينقلهم وفق العرف والتقليد الملكي المستمر منذ قرون طويلة، الإعلان عن الوفاة، التنصيب، الزيارات الملكية للأقاليم، نظرة الوداع، الجنازة، الدفن إلخ .كل شيء مجهز ، ومنظم، لا غوغائية ولا ارتجال، ولا أخطاء، الأعلام التي سترتفع لها دلالة، الرايات كذلك، إعلان الحداد، وعدد طلقات المدافع، ومكان وجود المدفعيات، والفرق المشرفة على الإطلاق، نظرة الوداع من الشعب لملكتهم المحبوبة.. كل هذا أمر لطيف ومثير أن نراه نحن أبناء الضفة الأخرى من المتوسط، حيث لا تقاليد ولا أعراف ولا منهجيات، بل كل ما يسير حيواتنا هي مجموعة من الأمزجة والمؤامرات..

الدولة هنا تستعرض تاريخها، تستعرض تنظيمها ونظامها، إنها لحظة الفخر التي تنتظرها الأمة البريطانية لتفرد أمام العالم كله عراقة إدارتها وسلاسة التغيير والحكم

ولنا أن نتخيل أن وفاة أي حاكم في العالم الثالث أو في المنطقة الأوراسية أو آسيا تعني الفوضى المطلقة، أو الانقلاب أو المؤامرات والخيانة.. دون وجود أي انتقال سلس للسلطة، ويعد وصول الحاكم الجديد إلغاءً كاملاً للبروتوكول السابق، الذي يرتبط به، وفُصّل من أجله وعلى مقاسه. وليس على مقاس الدولة.

لربما سيخرج أحدهم ليقول وما بالنا وكل هذا الترف، فالموت موت، وهو متشابه في كل مكان وزمان..

ولكن الدولة هنا تستعرض تاريخها، تستعرض تنظيمها ونظامها، إنها لحظة الفخر التي تنتظرها الأمة البريطانية لتفرد أمام العالم كله عراقة إدارتها وسلاسة التغيير والحكم.

ببساطة هذا هو الفارق بين الدولة العريقة والدولة الارتجالية، حيث لا تأويل ولا تفسير لأي شيء، فأحد المشرفين على مجلس تنصيب الملك، شكر ربه أن المنية لم توافه قبل أن يمارس مهنته في مجلس تنصيب الملك، وهو قد قارب الخامسة والثمانين، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الملكة إليزابيث قد حكمت لمدة سبعين عاماً، فكم مسؤولٍ عن الأمور التنظيمية قد عُيّن وتقاعد ولم تتح له الظروف أن يمارس مهامه!

ولعل أطرفَ تفصيل قرأته عن التقاليد الملكية الرائعة، هي أن المسؤول عن العسل الملكي، وهو موظف من الدرجة الأولى، سيذهب إلى خلايا النحل الملكي المسؤولة عن تزويد القصر بالعسل الفاخر، ويخبر النحل بصوت خفيض وهادئ بأن ملكتهم قد رحلت، وبأن لا يقلقوا فقد أصبح سيدهم الجديد هو الملك "تشارلز الثالث"، ولذلك عليهم أن يكثفوا نشاطهم من أجل سيدهم الجديد، وبالطبع ستزين جميع خلايا النحل الملكي بالشرائط السوداء حداداً على الملكة الراحلة.. فهذا تقليد قديم جداً، يوحي بأن لا ملك في أي مكان في بريطانيا سوى الملك المتوج في قصر باكينغهام، وبأن النحل المخلص لملكته سيتوقف عن العمل والإنجاز إن فقد ملكته، أو أخطر بوفاتها بطريقة مفاجئة وصادمة...

وفي هذا تشبه من الملكية البريطانية بالنظام والإخلاص والتفاني داخل مملكة النحل، ومحاولة للتشبه بها. أما نحن فليس لنا إلا أن نجلس أمام هذا العالم بأفراحه وأتراحه، ونتفرج ونتشاجر.