التعليم والديمقراطية في ظل الإدارة الذاتية

2022.09.21 | 06:26 دمشق

التعليم والديمقراطية في ظل الإدارة الذاتية
+A
حجم الخط
-A

كل ما جرى في بلادنا هذه كانت لأجل اللحظة التاريخية للإعلان عن الديمقراطية والحرية، وأولى مساراتهما هي حرية الاختيار والمعتقد والرأي. ولا نذيع سراً بالقول إن أكثر مصطلح متداول ومستخدم في شمال شرقي سوريا، هو "عبارة الديمقراطية"، بل إن من النادر أن يجد المتابع مشروعاً سياسياً، عسكرياً، إدارياً، دون إلحاق مصطلح الديمقراطية بها. وهي مشاريع كثيرة في واقعنا البائس والمثقل بنكباته وتراكماته التاريخية المخيبة للآمال، حيث بات من السهل جداً القول إن شمال شرقي سوريا يعيش حالة النكبة الفكرية والتربوية بسبب طريقة إدارتها ومساراتها المفروضة.

جديد الأمر أن الإدارة الذاتية تمنع المعاهد والمدارس الخاصة من تدريس مناهج الحكومة السورية، وبعد أن وضعت يدها على كامل المدارس الواقعة في الأحياء والمناطق الخاضعة لسيطرتها، فإن هذا الفعل وبعد تسجيل عشرات الآلاف من الطلاب في تلك المراكز الخاصة، سيعني أن الشوارع والمنطقة الصناعية في القامشلي والحسكة والمالكية ستعج بهم، خاصة من أتم عدة سنوات في دارسة المناهج باللغة العربية لن يتمكن من اللحاق بالمناهج الكردية، ونتيجة لاكتظاظ مدارس الحكومة السورية بالطلاب، فإن إمكانية إنهاء المنهاج المدرسي خلال العام الدراسي أمر في غاية الصعوبة، وأيضاً مع منع الدورات الخاصة في المعاهد والمدارس فإن مستقبلاً قاتماً أسود ينتظر أبناء المنطقة وتحصيلهم العلمي.

التربية والمناهج والمدارس والعملية التربوية هي خلاصة تجارب تربوية سياسية تأهيلية وتدريبية وتراكم خبرات، بالمحصلة يجب أن تصب في مصلحة الطالب أولاً وقبل كل شيء

وللتوضيح أكثر فإن كاتب هذه المادة كحال مُعظم الكرد، مع وجود منهاج باللغة الكردية، وتدريس اللغة الكردية، ولطالما ليس لدى كرد سوريا أيّ مشروع انفصالي أو تقسيمي لسوريا فلا مناص من وجود منهاج يُعبر عن التكوين القومي والشعبي لسوريا، ورفض قاطع لكل أشكال أو محاولات الزج بها في مقايضات أو بازارات سياسية حالياً أو لاحقاً، ولا يمكن القول إن اللغة الأم للشعب الكردي يُمكن لها أن تدخل في سياق التفاوض عليها. لكن العملية برمتها تحتاج إلى تخطيط وعمل ودراية تخص ذوي الشأن. فالتربية والمناهج والمدارس والعملية التربوية هي خلاصة تجارب تربوية سياسية تأهيلية وتدريبية وتراكم خبرات، بالمحصلة يجب أن تصب في مصلحة الطالب أولاً وقبل كل شيء، خاصة أن الأبحاث والنتائج للتجارب الحديثة أثبتت أن الطالب هو محور العملية التعليمية وهو الركيزة الأساسية قبل المدرس والمنهاج. لكن ما يحصل من منع الإدارة الذاتية للمدارس والمعاهد من تدريس منهاج الحكومة السورية يضع عشرات العراقيل أمام الطالب، علماً أن المنهاج السوري يعتريه عشرات النواقص وينتفي منها بشكل قاطع أي ترميز دلالاتي للهويّة السورية الجامعة، ولم تأت على أيّ ذكر للوجود الكردي التاريخي في سوريا، ولا باقي القوميات أيضاً، لكنها في حدها الأدنى مناهج معترف بها وتمكن شهادة التعليم الثانوي صاحبها من إكمال دراسته في أي جامعة وفي أي دولة يرغب بها، وفقاً لمعدله العام، وهو ما تفقده شهادات الإدارة الذاتية.

قُدمت العديد من التقارير البحثية والمقالات والدراسات حول واقع التربية في شمال شرقي سوريا، كونها أكثر المناطق مختلطة إثنياً وتعاني من تشنجات وصلت لحد الصدامات الاجتماعية بسبب المناهج المدرسة والقرارات، وسياسة الإلزام التي تقوم بها الإدارة الذاتية، وبالرغم من حجم الحلول المتاحة لتجنب الكارثة المجتمعية المقبلة، لكن كل المعطيات تجعل من العقل عاجزاً أمام عبثية قرارات الإدارة الذاتية في إلزام الآخرين الالتحاق بمناهجها ومدارسها، خاصة وأن لا ديمقراطية في رسم مسار واحد محدد فقط للطالب وذويه، بل هي جملة من المخاطر التي ترسم وعياً جمعياً معادياً للإدارة الذاتية وتشجع من زيادة وتيرة الهجرة. ولو سعت الإدارة الذاتية إلى "لا مركزية التعليم" ولو بشكل مؤقت إلى حين وضع حدّ للمقتلة السورية، أو البحث في أيّ مخرج لفشلها في الحصول على أيّ اعتراف بشهاداتها، لما لجأ غالبية المجتمع المحلي إلى تسجيل أبنائهم في مدارس خاصة متحملين رسوما باهظة تقترب من مليون ونص المليون للمرحلة الثانوية، والمليون للمرحلة الإعدادية، ونصف مليون للمرحلة الابتدائية، وكلها بالعملة السورية، بالرغم من حجم الفقر والحاجة التي تجتاح المنطقة، واستخدام الأهالي للحوالات المالية الواردة من ذويهم في الخارج لتغطية نفقات المدارس الخاصة عوضاً عن المعيشة.

ثمة خمس قضايا غريبة وشائكة في قرار الإدارة الذاتية، أولها: المتعارف عليه أن المنهاج المدرسي جزء من النظام السياسي في أيّ بلد، ويقوم المنهاج بالترويج لذلك النظام، وينقسم المجتمع المحلي تحت سيطرة الإدارة الذاتية، لشريحتين كلاهما يبحثان عن مستقبل أبنائهم لكن إحداها لا حرج عليها وليست جزءا من أيّ تكتل سياسي، بل هي شرائح شعبية تجد راحتها في مكانٍ ما، فتقصده، لكن أن تقوم الشريحة الأخرى، قيادات رفيعة المستوى في الإدارة الذاتية وكامل المنظومة السياسية لها، بإرسال أبنائهم إلى معاهد ومدارس تطبق مناهج الحكومة السورية، فهذا هو العسف السياسي والتمييز الطبقي بين أبناء الشعب الواحد؛ إذ كيف لقيادي في منظومة الإدارة الذاتية أن تعترف بمناهج النظام السياسي للحكومة السورية، أكثر من الإدارة الذاتية؟ هو سؤال وجودي ولن تتمكن الإدارة الذاتية من الإجابة عليه.

الثانية: لن يُرسل الناس أبناءهم إلى مدارس الإدارة الذاتية بهذه الطريقة، فسبق أن جربت وفشلت، وتكرار التجارب الفاشلة أمر في غاية سوء التخطيط والإدارة.

الثالثة: لن تلجأ الإدارة الذاتية إلى إغلاق المدارس الخاصة في المربعات الأمنية بالحسكة والقامشلي والتي تقارب الـــ/50/مدرسة، بما فيها المدارس الخاضعة لسيطرة الكنائس، ولا حتى المدارس في حي طيّ ذي الغالبية العربية الخاضع لسيطرتها، فلماذا كل هذا الضغط على مدارس، وشرائح محددة أكثر من غيرها؟

الرابعة: وصل قسم من طلبة الدورات الخاصة إلى نهاية المنهاج، وتم دفع الأقساط بالكامل، وبدا طلبة المدارس الخاصة الدوام منذ عشرة أيام وأيضاً دُفعت الرسوم على أقساط أو بالكامل، من يُعيد تلك الأموال وأين يذهب هؤلاء الطلاب، إذا كانوا منذ البداية غير مستعدين للالتحاق بمدارس الإدارة الذاتية؟

الخامسة: آلاف العوائل تستفاد من واردات عملها في تلك المدارس والمعاهد من مستخدمين، مدرسين، إداريين، سائقي عربات نقل الطلاب.. إلخ من سيعوضها عن مصدر الدخل الوحيد لقسم منهم. لنصل إلى السؤال الأهم حول السبب والتوقيت في هذا الفعل، مع مؤشرات حول إمكانية إعادة عجلة الحوار الكردي -الكردي، أو الحوار بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية، بكل المقاييس فإن ما يحصل هي ممهدات لكارثة تعليمية بكل المقاييس.

لا ديمقراطية من دون تعليم رصين، يختار فيها الطالب وولي أمره بحرية تامة أين وكيف يتجه للمدرسة

تصر الإدارة الذاتية ألا يفهمها الناس، إذ كيف تدعي حيازة مشروع سياسي خاص وجديد، وتقول إنها تسعى للوعي والإصلاح المجتمعي، ونوع جديد من المستقبل كل ذلك في بلد ينهار تعليمياً، وينتفى منها حرية اختيار المدرسة والمنهاج لدى قسم من المجتمع ويُسمح لقسم آخر منهم بالدارسة وفق ما يشاؤون، وهي الحالة التي تعيشها دير الزور أيضاً حول رفض فرض تلك المناهج. لو تهتم الإدارة الذاتية بترميم المدارس وكتابة مناهج أكثر عصرية وتشجع على التعددية والرأي الآخر والديمقراطية وحقوق الإنسان، وحرية الاختيار والبحث في آليات دمج المناهج الموجودة ومراعاة التعددية اللغوية وإبعاد غير الأكفاء عن التربية سيكون أفضل لها بكثير.

لا ديمقراطية من دون تعليم رصين، يختار فيها الطالب وولي أمره بحرية تامة أين وكيف يتجه للمدرسة. وعادة ما تسعى الحكومات وهياكل الحكم المحلية لأثبات نجاحها وأهمية مشاريعها عبر توفير أفضل فرص التعليم، كونه أحد أبرز مؤشرات التنمية والتطور والتقدم ومعايير الديمقراطية، بل بناء المدارس والجامعات وتوفير المنح الجامعية والدراسات العليا للخارج، أفضل من التبريرات السطحية حول "سوء مناهج الحكومة السورية". فجميع مستويات التحصيل العلمي لموظفي الإدارة الذاتية من المستخدم إلى أعلى الهرم، هم من خريجي مدارس وجامعات ومناهج الحكومة السورية، والمؤسف أن يجد المجتمع المحلي نفسه في دوامة البحث عن تعليم يقي أبناءهم من شر الجهل والأمية.

التعليم أولاً وقبل كل شيء، وإصلاح العطب والخلل في العملية التعليمية هو الأساس في بناء المجتمعات، وهو على رأس أولويات البنية التنموية. وبدلاً من هذا القرار، كان يجدر بالإدارة الذاتية البحث في آليات ردم الفجوة التعليمية واللغوية والتربوية بين طلبة البلد بل الحيّ الواحد ونواتجها الخطيرة والمخيفة على الأمن المجتمعي، فالأمن التربوي لا يقل أهمية عن كل أشكال الأمن الأخرى، وإغلاق المدارس سيعني انتشار الجهل والأمية بين أبناء المجتمع الكردي أكثر من غيره، نظراً لأن الإغلاق يشمل المدارس والمعاهد الخاصة الموجودة في الأحياء الكردية فقط. فالتعليم /الطالب، المنهاج، المُعلم-المدرس/ أولاً وقبل كل شيء، فهم أساس العملية التعليمية وجوهرها ولُبّ التنمية الاقتصادية والمجتمعية، وجوهر الاستقرار الشعبي، والعمود الفقري للديمقراطية.