التعبير الإلكتروني: حرية أم فوضى؟

2020.02.24 | 23:01 دمشق

rsalt_alktrwnyt.jpg
+A
حجم الخط
-A

أبدع الأقدمون في كتابة الحكم والأمثال المتعلقة بفلتان اللسان والخروج عن المنطقي من الكلام وانحراف التعبير. بالمقابل، ومع تطور وسائل التعبير وطرق توصيلها، ومع بزوغ "فجر" وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، افتقدنا متابعة هذه الأمثلة والحكم لأنماط تعبيرية جديدة تقودها ألسنة إلكترونية حيث لا يختفي فقط أصحاب انحرافاتها خلف شاشاتها وإنما يختفون عن مسار العقلانية والاحترام والمنطق. 

في يوم من أيام البدايات في مجال التعبير الإلكتروني واستخدام وسائل التواصل الحديثة، وإثر غضب شديد من موقف سياسي لصديق، كتبت له رسالة إلكترونية وضغطت على زر الإرسال فذهبت فوراً ولم أكن على علمٍ حينها بإمكانية الاستمهال لنصف دقيقة على الأكثر يمكنني أثناءها أن أحذف الرسالة أو أعدّلها. وخلال بضعِ ثوان، أعلمني الجهاز بأن ما كتبته قد وصل إلى مقصده. ندمت بحرقة، لأن ما أرسلت ما كان إلا تعبيراً عن غضب آنيّ جامح، لا مكان له في الحوار العقلاني. ولو كنت أكتب تقليدياً بقلمٍ وعلى ورقة، لمزّقت عدة صفحات قبل أن أضع الرسالة في مغلف بريدي وأرسلها إلى مقصدها. ومنذ ذاك الحين، صرت "ألوك" ما أخطه في رسائلي الإلكترونية مرات عدة، خصوصاً تلك المرتبطة بمواضيع إشكالية، فإن وجدت فيه تعبيرات تبعث على الريبة أو يمكن لها أن تُثير غضباً إنسانياً من الطرف الآخر فلن أرسلها.

وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وكما قال، بقسوة وبمبالغة محتملة، الكاتب أمبيرتو إيكو، "تعطي الحق في الكلام لمجموعات من الأغبياء، الذين لم يكن يتاح لهم الكلام إلا في الحانات، بعد كأس من النبيذ، وحيث لم يكونوا يشكلون أي خطر على الجماعة. لقد كان يمكن إسكاتهم فورا. أما اليوم، فلهم نفس الحق في الكلام الذي يملكه فائز بجائزة نوبل، إنه غزو الأغبياء".  

ويسود الاعتقاد بأنه من المقبول نسبياً، ولو بمضاضة، أن يهرف هؤلاء "الأغبياء" بما لا يعرفون وتُساهم ألسنة السوء في الانتقاص السوقي من آخرين لم يعجبهم ربما مظهرهم الخارجي ليس إلا. فالعامة، وليس هنا المقصود تصنيفاً طبقياً بقدر ما هو تصنيف معرفي أو فكري، يحق لهم استغلال نوافذ التعبير السهلة هذه لكي يُبدعوا في التحليل وفي الاستنتاج وفي التقييم دون حسيب علمي أو رقيب أخلاقي. وبالنتيجة، هذه هي الحرية التي نسعى إليها جميعاً، أليس كذلك؟ فأمبيرتو إيكو، في ملاحظته المشار اليها في أعلاه، لم يبحث عن الدعوة إلى منع هؤلاء الذين وصفهم بالأغبياء عن التعبير، إلا أنه وصّف المشهد وهو توصيف يقارب الدقة الكاملة وإن كانت موجعة.

وسائل التواصل أتاحت لمن "هبّ ودبّ" إمكانية التعبير الكتابي السلبي المشبع بأحقاد تكوينية متقاطعة

وسائل التواصل إذاً، أتاحت لمن "هبّ ودبّ" إمكانية التعبير الكتابي السلبي المشبع بأحقاد تكوينية متقاطعة، فيها السياسي والثقافي والديني والجنسي والأخلاقي. وفي هذا المناخ المحمّل بطاقات سلبية جمّة، يجب على العقلاء ليس فقط أن "يداروا السفهاء منهم" بل وأن يعتبروا بأن هذا حق تعبير، إن هم كانوا يسعون فعلاً، وليس فقط قولا، إلى الحرية التي تعتبر حرية التعبير أساسها. 

مع الدعوة إلى التساهل ومحاولة استيعاب لمن يجد في هذه الوسائط الحديثة وسيلة تنفيس لضغطٍ متفجرٍ أو تفريغاً لشحنات إنسانية سلبية أو تعبيراً عن عقد متراكمة، فإنه من الواجب التنبه والتنبيه من زلاّت تعبيرات العقلاء والمثقفين والمفكرين ومن في حكمهم. إنها الطامة الكبرى وآثارها تفوق بمئات المرات آثار ما يقترفه الصنف الأول من تعبيرات خارج العقل والمنافية للمنطق. إذاً، من الضروري التوقف عند هذه الأدوار بعد طول إهمال. وعلى الرغم من أن وسائل التواصل قد أنجبت نجوماً ربما في غالبهم ينتمون إلى الصنف الأول، فإنه من الخطير بمكان أن ينتمي أفراد الصنف الثاني إلى "موضة" التعبير بلا تفكير والسعي إلى جذب الاهتمام العددي لأكبر عدد من الموتورين المقيمين على صفحات التواصل بعيداً عن أي أمر يمكن له أن يُشغل الإنسان الطبيعي.  

تكثر إذاً ترّهات من يستسهلون التعليق دون تفكير. إن انصراف بعض "قادة" الفكر والمؤثرين فناً أو كتابة أو تحليلاً في المجتمع، إلى الانغماس في وحول وسائل التواصل للخوض في تصفية حسابات فرويدية كامنة أو للرد المنفعل على حدثٍ ما يمكن أن يكون الشعور بالرد عليه شديد الإنسانية والمشروعية، يفتح المجال لتأسيس "ثقافة" جديدة عمادها سرعة التعبير ونقص معانيه وتشويهها. فإن كنت أمام برنامج تلفزي وأثار غضبك تعليق ما أو مشهد معين، فمن الأجدى، كونك صاحب رأي وقلم ومعرفة، أن تكتب تحليلاً نقدياً ليس بالضرورة في مقال، بل يمكن أن تدرجه في أسطر معدودات وتضعه في صفحتك التي تسعى من خلالها إلى حصد الإعجاب. أما إن عبّرت، وعن حق ربما، عن غضبك بعبارتين أو ثلاثة، تحمل الشتائم والإهانات، فأنت تستثير أصحاب الصنف الأول لكي ينهالوا بتعليقاتهم الجوفاء والسوقية مؤيدين موقفك مما تابعت، ومن دون أن يتابعوا ما تابعت، وإنما كونك قائدَ رأي، فأنت بوصلة لهم. فهل تحوّل الصنف الثاني إلى عنصر تهييج للصنف الأول؟