التطبيع مع الأسد.. مقدمة للتطويع

2019.12.11 | 16:11 دمشق

thumb_63405_700_400_0_0_exact.jpg
+A
حجم الخط
-A

التطبيع مصطلح ومفهوم سياسي، يعني جعل العلاقة طبيعية بين بلدين بعد توتر وقطيعة عبر خطوات تدريجية أو دفعة واحدة، أخذ عمقه في العالم العربي كمفهوم في أعقاب النكبة الفلسطينية عام 1948، ويمكن تعريف التطبيع المتداول عربياً، بأنه غطاء النكبة والجرائم ليصبح الأمر مألوفا ومبررا، والتطبيع السياسي والاقتصادي هو الثوب الواسع الذي يُلبس للجرائم، ثم يأتي دور التطبيع الثقافي لعملية تطويع العقل، للقبول بحق المحتل والطاغية والمستبد بارتكاب الجرائم تحت ذرائع مختلفة وأساطير منها دينية، أو شعاراتية وأيديولوجية.

هناك أمثلة كثيرة في التاريخ العربي والفلسطيني لتجسيد التطبيع تناولها الباحثون وأصحاب الرأي، لكن خلال العقود الماضية من الصراع مع الاحتلال، تم إضعاف جبهة مقاومة التطبيع بعد كامب ديفيد 1978، بشكل رسمي عبر معاهدات سرية وعلنية مع الاحتلال خصوصاً بعد اتفاق أوسلو مع السلطة الفلسطينية 1993، واتفاق وادي عربة مع الأردن 1995 إلى اليوم الذي نشهد فيه هرولة غير مسبوقة لدعم عدو الشعب الفلسطيني والإشادة بجرائمه على الأرض والبشر.

حتى حركة المقاطعة الدولية "بي دي إس" التي أسست في العام 2005، لسحب استثمارات الاحتلال وممارسة الضغط الاقتصادي عليه، والدعوة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، تأثرت بضعف المقاطعة العربية، خصوصا في العقد الأخير، وأثناء اندلاع الثورات العربية، تحول الاهتمام لشؤون أخرى لا تقل أهمية عن جوهر المقاطعة وأسبابها.

مقدمة التطويع الأسد نموذجاً

خلال السنوات التسعة الماضية، جرت كوارث لا تقل عن تلك التي حدثت قبل سبعة عقود، لا من حيث الجرائم وآثارها فقط  والتي ينشط تيار دعوة إعادة التطبيع مع أنظمة مارست مذابح ونكبات للتغطية عليها، بل أصبح مألوفاً أن يرتكب سفاح مثل الأسد جرائم متعاظمة حولت ملايين السوريين لضحايا، وأن تتوالى مقدمات التطبيع مع نظامه بشكل متوازٍ مع تلك التي يجتهد المهرولون نحو العدو  لتحقيقها، يظن هؤلاء من المنتمين إلى وعي آخر وزمن آخر، وإلى لغة أخرى، أن السوري والفلسطيني والإنسان العربي، سيكتفي بحصته من القهر والدمار والظلم والقتل، وأنه سيعود لتلك الجدران التي حاصرت وعيه دون أن يطور حده الأدنى من الرد على الحد الأقصى من فاجعته.

أمام أكداس من التفاصيل، وربطها مع بعضها بعضاً، يثار العقل حول انهيار مقاومة التطبيع رسمياً، ولا معنى للربط إن لم يقترن مع الزحف المتزايد نحو "قصر الأسد" لمدحه ومكافأته على جرائمه، وبين الرسائل والاتفاقات السرية والعلنية

ما حدث للسوريين، وما يحدث من غمز ولمز وزيارات للأسد ودعوات للتطبيع معه، هو محصلة انعطاف الأخلاق والضمائر، لا السفارات ولا التسهيلات المالية والعسكرية

مع الاحتلال، يحصل الطاغية والمحتل على صك البراءة والثناء على فعلته كي يرتبط الجميع بعربة واحدة، تجر خلفها المقطورين لتهنئة الأسد بعصاباته والمحتل بما أنجز، لا اختلاف بين سكة التطبيع نحو قصر الأسد أو تل أبيب، وقد باتا عنوانين لنكبة العصر ولم تعد هنالك حاجة للبرهنة عليهما.

ما حدث للسوريين، وما يحدث من غمز ولمز وزيارات للأسد ودعوات للتطبيع معه، هو محصلة انعطاف الأخلاق والضمائر، لا السفارات ولا التسهيلات المالية والعسكرية ولا كل الكلام والشعارات  باستطاعتها  نزع ما ثبت في العقل والقلب، فإذا تجاوزنا مظاهر البكاء والتعاطف التقليدي مع ضحايا الطاغية والمحتل، واستحضر السوريون الذكريات الحقيرة التي أقامها الأسد في وطنهم، أدركنا معنى أن يبتهل "رجل دين" من أرضه المحتلة ليبارك جرائم الأسد وإنجازاته، وأن يتقاطر نقابيون وسياسيون عرب، ونخب مختلفة،  بنداءات تطالب حكوماتها بدعم الأسد لتوطيد سيطرته وتقديم الدعم والإسناد له.

التطبيع مع الأسد، عربياً وغربياً، وإلباسه ثوب "النصر والسيطرة"، هو تزيين مزيف لن يطوع عقول السوريين ولن ينقذ الأسد، صحيح أن الواقع الرسمي العربي لم يزل يقدم تعابير بائسة في حالة تضامنه القمعي والتطبيع الأمني، ورواية الرد على الشوارع العربية الثائرة، لكن تبقى إغراءات التطبيع مع الأسد الحجة الأقوى لتمرير تطبيع موازٍ مع المحتل، وحجة أقوى لجهة فرض القمع الاضطهاد على مجتمعات أخرى.

أخيراً، التطبيع مع الأسد له ملمس خاص، غير منفصل عن الحبور والسعادة التي يبديها المحتل مع كل إنجازات الأسد، خصوصاً تلك التي لم يكن بمقدوره إحداثها في مجتمع السوريين، لكن من قال "إن الكبار سيموتون والصغار سينسون" يدرك أي فشل أصيب به رهانه ومن يعتقد أن عقل السوري أقل وعياً من حفظ تفاصيل نكبته وتوريثها لأجيال قادمة سيفشل أيضا في رهانه لأسباب ستبقى محفوظة عند ملايين المقهورين.