من مذبحة تل الزعتر إلى مذابح سوريا

2021.07.03 | 06:10 دمشق

b54154f596f915fa51ba6fdb3f2361ae.jpg
+A
حجم الخط
-A

أعاد السياق السياسي الفلسطيني في زمن مضى صياغة ذاكرته عن مذبحة مخيم تل الزعتر في بيروت الشرقية 1976 بفراغ المعنى، وببداهة صارخة دخل في تفاصيل لفظية كثيرة مع أن الجريمة واضحة المعالم والأركان، وفي الحالات كلها شكل تدمير مخيم تل الزعتر البداية الفعلية لتدمير فكرة "المقاومة والممانعة" التي تغنت بها فلسفة البعث في سوريا في أثناء حقبة الأسد الأب والتي سبقها منع العمل الفلسطيني المسلح من الحدود السورية، وقادت لاعتقال جورج حبش في العام 1968، لكن في تل الزعتر رفع الأسد تقاليد عدائه للشعب الفلسطيني إلى الذروة وذلك في علاقة وتحالف غير ملتبس مع قوى يُحب البعض التطرق إليها اليوم ممن يتذكر المذبحة  "بالقوى الانعزالية اليمينية" في لبنان، ولكن من دون الإشارة لدور نظام حافظ الأسد الرئيسي في حصار وتدمير المخيم آنذاك، كما تستخدم عبارة تدمير مخيم اليرموك دون الإشارة لطائرات ميغ الأسد وجيشه.

كانت سذاجة استحضار مذبحة مخيم تل الزعتر في عموميتها الغائمة، اعتماداً على شكلانية مفرطة قوامها صراع الثورة الفلسطينية مع القوى الانعزالية بترحيل الالتزامات من ديار الحقيقة إلى بلاط الطاغية السوري، والأخير شريك ومسؤول عن مقتل ثلاثة آلاف من الرجال والنساء والأطفال فضلاً عن جريمة تدمير ونسف المخيم، وإذا كان لنا أن نستبقي من ذكرى الالتزام  بالوفاء لضحايا تل الزعتر فعلينا استحضار ما نشرته صحيفة السفير اللبنانية في عددها الصادر 16/تموز/1976، لشهود عيان من المخيم تحت عنوان "جنود سوريون وقذائف عبرية" (القوات السورية شاركت في معركة دك مخيم الصمود بشرياً وآلياً، وكنا نشاهدهم مع دباباتهم ت62 بالعين المجردة، وهناك ملالات جديدة نشاهدها لأول مرة، ظهرت في معارك التل كما أن بعض القذائف سقطت داخل المخيم ولم تنفجر عليها كتابات عبرية، الجنود السوريون شاركوا بالاقتحامات وسلموا المواقع للقوى الفاشية).

مهدت سلطة حافظ الأسد لتطويع القضية الفلسطينية في مجزرة تل الزعتر، ومهدت للسوريين بالقمع والإرهاب لاعتقال إرادتهم

من السذاجة أيضاً أن نعود بالذاكرة لأربعة عقود ونصف في تذكر تل الزعتر، وبالقفز عن نسلها المتوالد على الأرض من حماة السورية 1982، إلى كل قرية ومدينة مسجلة في قوائم المذابح التي ورث الأسد الابن من أبيه إتقانها منذ العام 2011، وكل الذين رووا سيرة المخيم وذكريات الحصار والمذبحة، وانتهى حال أشقائهم في مخيم اليرموك من تعفن الجراح في أقبية التعذيب الأسدي، بعدما نثر الأسد الابن لحمهم في  الطرقات، وما دار حول المذبحة في تل الزعتر كان واضحاً الوضوح كله، في سياق مذابح السوريين من دوما وداريا واللطامنة وكفرزيتا والقصير وجبل الزاوية وخان شيخون، إلى القائمة الطويلة للمجازر التي استخدمها نظام الأسد كوسيلة للرد على مطالب السوريين.

لا يعني إحياء يوم المذبحة في تل الزعتر كما في الأيام السورية الذبيحة، الركون إليها بل يعني العودة إلى غرف الدراسة والتفتيش والتنقيب والحفر

مهدت سلطة حافظ الأسد لتطويع القضية الفلسطينية في مجزرة تل الزعتر، ومهدت للسوريين بالقمع والإرهاب لاعتقال إرادتهم، وطاردت كل صوت أصبح نقيضا فعليا لكل سياسات نظامه القمعي، وكان "طبيعياً" في نظام أدمن القمع والقتل وولع السلطة المورثة لابنه، أن يستنفر طاقة الإرهاب المخزنة لديه لمواجهة ثورة السوريين عليه باستخدام كل الموبقات الممكنة، كي تتحول الثورة إلى استطالة باهتة وكسيحة وزعزعة وحدتها وزرع اليأس في النفوس بآلاف الجثث  كمقدمة "ضرورية" لإضعاف الثورة في البداية، وإخماد لهبها ومصادرة فعلها الجماعي الطليق لاحقاً.

لا يعني إحياء يوم المذبحة في تل الزعتر كما في الأيام السورية الذبيحة، الركون إليها بل يعني العودة إلى غرف الدراسة والتفتيش والتنقيب والحفر، وهذا لم نشاهد آثاره حتى الآن حتى على مستوى "ثقافة" فلسطينية ونخبوية عربية، لم تتجاوز بأصواتها حبال صوت الطاغية عندما أخذت الفاجعة السورية شكل الفضيحة الأخلاقية في اليرموك وأقبية التعذيب، ومع الفقدان المقصود لمواقف دولية وحقوقية وإنسانية، لذلك كانت وستبقى ملامح التشابك والتداخل في توظيف المذبحة في خصوصية نموذج الطاغية السوري ووظيفته من الأب للابن، ولم يعد نموذجه قابلاً للأخذ بالاعتبار فقط تحت ضغط المفارقة الحادة بين تل الزعتر وبقية المذابح في سوريا إلا على أرضية تأسيس روافع أسدية حارقة اجتاحت المجتمع السوري في العقد الأخير، والتي قادت وهي " فخورة أو خجولة " إلى ما نحن فيه الآن في حضرة الذكرى.