التضحيات الضائعة..

2023.08.23 | 06:08 دمشق

آخر تحديث: 23.08.2023 | 06:08 دمشق

كاريكاتير بعنوان "معارضة خمس نجوم" للفنان موفق قات، حزيران/يونيو 2023 (تلفزيون سوريا)
+A
حجم الخط
-A

السمة الأهم لـ"النخب" السورية اليوم، هي أنها ماهرة جداً في تضييع جهود السوريين وبعثرتها، وهي حتى اللحظة لا تزال تصر على العمل بالطريقة ذاتها التي بات واضحاً أنها بلا جدوى، ففي الشأن العام لا يمكن إحداث أي تغيير أو انتقال في/ من حالة راهنة إلى حالة أخرى، دون فهم منهجية التراكم، ودون العمل بها.
رغم أن السمة العامة للسوريين كأفراد، هي أنهم غالبا ما ينجحون في مراكمة جهدهم الخاص، وفي تطوير مشاريعهم الخاصة، إلا أنهم على العكس عندما يتعلق الأمر بالشأن العام، الذي يمثلهم كمجموع لا كأفراد، مردُّ هذا العجز بقسمه الأعظم إلى غياب الثقافة التي تعزز من العمل الجماعي، وإلى غياب الجهات التي تؤطّر هذا العمل وتطوره.

تسييد الثقافة الفردية في سوريا أدّى عبر عقود من التحطيم المتعمد لأي جهد عام جماعي إلى تفشي ثقافة عدم تقبل الآخر، وعدم الاعتراف به كمختلف.

عادة، وفي المجتمعات الديمقراطية المستقرة، تتولى جهات عدة مراكمة جهود أفراد المجتمع، بدءاً من الاقتصاد ومروراً بكل النشاطات الإنسانية المعروفة، سواء العلمية، أو الثقافية أو الفنية..إلخ، وانتهاءً بالسياسة والرأي العام، وهذه الجهات متعددة، ويمكن تشكيلها دائماً، ويمكن تغيير سياساتها، وانتقادها وتطويرها وما إلى ذلك، ولا يمكن حصرها فهي تبدأ بالحكومات، والنقابات، والأحزاب، والمنظمات والأندية... إلخ، وتصل إلى مستوى العائلات والأحياء، وتنظم علاقة الأفراد فيما بينهم أولاً، ثم علاقتهم بالجهة التي يرتبطون بها، ومن ثم العلاقات العامة الناظمة لكل جهات المجتمع، أطر قانونية ودستورية يحددها المجتمع ككل.
أدّى التغييب المتعمّد لكل الأطر التي تراكم الجهود، وتوجهها، وتطورها، إلى سيادة الثقافة الفردية، وأدّى عبر عقود من التحطيم المتعمد لأي جهد عام جماعي لتفشي ثقافة عدم تقبل الآخر، وعدم الاعتراف به كمختلف، بصياغة أخرى لم يعد الاختلاف مصدراً للتنوع، والتعدد والغنى، بل أصبح مصدراً للحروب والتقسيم.
هذا التشظي المتعدد المحاور توسع ليجتاح كل أوجه الحياة، وجعل من السهولة التحكم بالمجتمع، مهما تكن القوة المناهضة له ضعيفة، طالما أنها تتفوق بإمكانياتها على أي مجموعة أو جهد منفرد، وهذا ما يُمكن رؤيته بوضوح في كل مجالات الحياة السورية، حتى وصل الأمر إلى ما يمكن اعتباره أساسياً في المجتمع، وكان يصعب اختراقه، كونه يشكل ركيزة راسخة في حياته، كالعادات، والأعراف والتقاليد.. وغيرها.
أمام الاستحقاق الكبير الذي يواجه السوريين اليوم، تظهر النتائج التي ترتبت على غياب القدرة على مراكمة الجهود من أجل إحداث التغيير المطلوب، وتتبدى بشكل جلي قدرة النظام على مواجهة المجتمع كلّه، رغم كل الهشاشة والضعف التي وصل لها، ورغم إفلاسه اقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً وأخلاقياً، إلا أنه لا يزال قادراً على التحكم بالسوريين، وعلى منع تشكيل الأطر الضرورية لهم، كي يراكموا جهدهم وقوّتهم، فيما يمكنهم من الإمساك بقرار حياتهم ومستقبلهم.

تتحمل المؤسسات التي تدّعي أنها تقف في صف السوريين، وثورتهم في الداخل والخارج، مسؤولية تفتيت السوريين وضياع تضحياتهم أكثر مما يتحمل مسؤوليته النظام، فهم من فشلوا في تمثيل السوريين، وهم من هادنوا.

لم يكن النظام وحده المسؤول عن فشل السوريين في تشكيل أطرهم التي تعمل على توحيد رؤاهم، وتوحيد جهودهم، بل ساهمت الأحزاب السياسية، والنقابات وغير ذلك في ما أراده النظام، وإذا كان لفشل الأطراف التي تنشط في مواجهة النظام بعض المبررات في مرحلة القمع الشديدة التي حكمت سوريا قبل انفجار الثورة، وهي مبررات قد نختلف حول مدى وجاهتها ومدى استعمالها كشماعة لتبرير العجز، إلا أنه لم يكن لها أي مبرر بعد انطلاق الثورة السورية في آذار 2011م، وخصوصاً عندما تشكّلت مؤسسات لقوى سورية، خارجة عن سلطة النظام.
اليوم تتحمل المؤسسات التي تدّعي أنها تقف في صف السوريين، وثورتهم في الداخل والخارج، مسؤولية تفتيت السوريين وضياع تضحياتهم أكثر مما يتحمل مسؤوليته النظام، فهم من فشلوا في تمثيل السوريين، وهم من هادنوا، أو هم من قبلوا أن يكونوا تابعين للآخرين، وهم من منعوا السوريين من تصويب عمل هذه المؤسسات لتكون قادرة على الفعل، وعلى إنتاج الأدوات التي تناسب كل مرحلة من مراحل هذا الصراع، الدموي، القاسي الذي دفع السوريون ثمنه دماً، وتحملوه بشجاعة فائقة.
لم يعد يكفي تقديم المبررات، فمن فشل كل هذا الفشل الذريع، والذي كان ثمنه كل هذا الخراب ليس له أي مبرر في التمسك بقيادة هذه المؤسسات، وعليه أن يستقيل منها، وأن يفتح الطريق واسعاً أمام قيادة جديدة تستطيع فعلاً أن تكون صوت السوريين، وأن تدافع بحق وبصدق عن حقوقهم ووطنهم.
اليوم، أصبح من الضروري جداً أن يجد السوريون طريقة ما لتوحيد جهودهم ومراكمتها، فما قدمه السوريون من تضحيات عظيمة كان كفيلاً بتحطيم القوة التي تقف في وجههم، لولا أن تضافرت جهود دولية ضدهم أولاً، ولولا - وهو الأهم - أنه كان من السهولة على خصومهم بعثرة جهودهم وتصفيرها من جديد ثانياً، لأن من تصدروا تمثيلهم، فشلوا في استثمار هذه التضحيات.
في حراك اليوم، والذي هو امتداد للثورة التي اشتعلت قبل اثنتي عشرة سنة، والذي يتخذ اليوم وجهاً آخر على امتداد سوريا، وجه يمكن استثماره جيداً، ويمكن التعويل عليه في طي صفحة سوداء من تاريخ سوريا، والبدء بصفحة جديدة، تعيد للسوريين حقهم في تقرير حياتهم ومستقبلهم، نحن أحوج ما نكون إلى صيغة ما، تدعم هذا الحراك وتراكم تضحياته، وتجعل منه رقماً صعباً، لا يُمكن تصفيره مرة أخرى.
ولعله من بديهيات تجميع الجهد السوري، ومراكمته هو نفي ما يفتته، ولا حاجة هنا لاستذكار عوامل التفتيت التي استعملها النظام ببراعة في حربه ضد الشعب السوري، لقد خبرها السوريون جيداً، وذاقوا ويلاتها.