الانتخابات البرلمانية ومفهوم الشعب عند نظام الأسد

2024.05.29 | 06:21 دمشق

آخر تحديث: 29.05.2024 | 06:21 دمشق

255555555555555556
+A
حجم الخط
-A

لم يحدث في تاريخ البشرية أن قام نظام سياسي باختيار شعبه، فإما أن تختار الشعوب أنظمتها، -كما يحدث في الأنظمة الديمقراطية- أو يفرض عليها حاكم مستبد، ولكن أن يقوم نظام سياسي بانتقاء شعبه وتحديد من يصلح أن يكون من الشعب ومن لا يصلح، فذلك نمط جديد في العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم انفرد به نظام الوريث.

ما حدث في سوريا في زمن الأسد الابن فاق الديكتاتورية بمراحل كبيرة فهو لا يتردد في تحديد هوية الأشخاص ومواصفاتهم التي تسمح لهم بأن يكونوا من الشعب ونفي صفة الشعب عمن لا يحقق تلك المواصفات، وهنا تم حرمان فئات كثيرة ليس فقط من حق المواطنة بل أيضاً من أن يكونوا في عداد الشعب، وبات على السوري أن يحصل على شهادة حسن سلوك وشهادة تجانس ممهورة بتوقيع وخاتم رئاسة الجمهورية إن أراد أن يكون جزءاً من الشعب.

وبعد كل ما ارتكبه نظام الأسد من مجازر بحق الشعب، وبعد تهجيره لما يقارب نصف الشعب، وجلبه لاحتلالات عدة باتت تتحكم في مصير ذلك الشعب، بعد كل ذلك لا يجد النظام حرجاً ولا يتردد في إجراء انتخابات ما يسمى مجلس الشعب، أي مجلس ما تبقى من الشعب المتوافق عليه وعلى صلاحيته من قبل أجهزة أمن الأسد، والقابع مرغماً تحت سلطة قمعه وإرهابه، والراضخ لشروط التجانس التي حددها الوريث والمتمثلة بشرط تمجيد الرئيس وتحويل إجرامه إلى بطولات خارقة وخيانته إلى درس في الوطنية.

واللافت في هذا السياق هو ترويج النظام لانتخابات مجلس الشعب على أنها استحقاق دستوري وأنها عملية ديمقراطية تتم ضمن الإطار القانوني والقضائي، وأن الإجراءات المتبعة فيها دقيقة ومنضبطة، وعلى أنها انتخابات نزيهة ومحايدة ولا سلطة أو رقابة عليها سوى السلطة الدستورية.

يتفرد نظام الأسد عن غيره من الأنظمة القمعية بتفسيره مفهوم "الشعب"، على أنه مادة للاستهلاك المحلي والخارجي في المناسبات التي تتطلب الإقرار بوجود هذا الشعب واستعماله كوسيلة لشرعنة حكمه المافيوي.

وإذا كان السوريون قد اعتادوا على تلك المسرحيات الهزلية التي يقدمها النظام لتصدير نفسه على أنه دولة مؤسسات، فإن السؤال الغائب في هذا السياق يتمثل في مفهوم الشعب لدى النظام وما يعنيه الشعب له.

عُرفت الأنظمة الديكتاتورية بقمعها لشعوبها واضطهادها لهم، غير أن نظام الأسد قد أضاف سمة لا يشاركه فيها أحد وهي احتقاره لشعبه وتعامله معه على أنه مجرد مجال لممارسة السلطة عليه واعتباره مجرد قطيع يتفضل النظام عليه بإبقائه على قيد الحياة إن كان مطيعاً وخانعاً، والتفنن بقتله إن خرج عن الطاعة.

لا يتعامل نظام الأسد مع الشعب السوري على أنه جماعة بشرية تعيش في بقعة جغرافية ولها حق الحياة وحق المشاركة في القرار فيما يخص إدارة شؤونها ومستقبلها، ولا يتعامل مع مفهوم الشعب على أساس حق المواطنة، بل إن كل جهده تركز على إلغاء مفهوم المواطنة واقتلاعه من جذوره واستبداله بمفهوم التبعية والعبودية، مفهوم القطيع الذي يتوجب عليه السمع والطاعة وتنفيذ الأوامر دون اعتراض أو حتى شكوى.

وفي هذا السياق أضاف النظام شرطاً مبتكراً، حيث على هذا الشعب أن يشكر نظامه ويعترف بفضله في الجرائم والمجازر التي يرتكبها بحقه وأن يعتبر ذلك منة وفضلاً، وبغير ذلك فهو شعب ناشز خائن يستحق التنكيل به بدءاً من الاعتقال، وليس انتهاء بالقتل والتشريد.

كما يتفرد نظام الأسد عن غيره من الأنظمة القمعية بتفسيره مفهوم "الشعب"، على أنه مادة للاستهلاك المحلي والخارجي في المناسبات التي تتطلب الإقرار بوجود هذا الشعب واستعماله كوسيلة لشرعنة حكمه المافيوي، أما في غير تلك المناسبات فليس لمفهوم الشعب وجود في قاموس النظام السياسي.

في سنوات السكوت والخنوع التي عاشها الشعب السوري مرغماً، ولا سيما بعد المذلة الكبرى التي تجسدت في تحول فكرة التوريث إلى واقع، ارتدى النظام قناعه الحضاري وحاول رشوة الشعب بالتخلي عن بعض الفتات والذي ترجمه رئيس النظام على شكل زيادات في الرواتب أو منح مادية في المناسبات كان يدفعها باليد اليمنى ويستعيدها باليد اليسرى من خلال رفع أسعار السلع عقب زيادة الرواتب أو صرف منحة، بل إن فكرة المنحة بما فيها من إهانة، تدل على النظرة العميقة والحقيقية التي يعامل النظام شعبه من خلالها، حيث يعتبر المنحة نوعاً من "البخشيش" الذي يتركه الزبون لجرسون المطعم أو لسائق التاكسي.

الامتحان الأهم الذي خاضه النظام فيما يتعلق بعلاقته بالشعب، تجسد عندما اندلعت الاحتجاجات المطالبة بالحرية، عندها فقط خلع النظام قفازيه الناعمين، وتخلى عن قناعه الحضاري وبرزت أنيابه المختبئة، وأعلن بلا مواربة مفهومه للشعب ومفهومه للوطن أيضاً وتجلى ذلك واضحاً في شعار الأسد أو نحرق البلد، أي أن البلد بما فيها ومن فيها هي ملك للرئيس وأنه يستطيع أن يتصرف بملكه كما يشاء.

تأتي انتخابات مجلس الشعب والشعب يعيش أحلك مراحل مأساته، انتخابات تدعي أنها ديمقراطية في بلد لا يستطيع شعبه أن ينبس ببنت شفة ليعبر عن رأيه الحقيقي.

ليس ثمة من هو أكثر احتقاراً لمفهوم الشعب من نظام الأسد، وهنا تبدو فكرة مجلس الشعب إمعاناً في ذلك الاحتقار ولا سيما إن أخذنا بالاعتبار النتائج المحسومة سلفاً، فضلاً عن شلل أعضاء المجلس وعجزهم عن تقديم أي خدمة للشعب، فإذا كان الخنوع والذل والتبعية شروطاً أساسية تواجه السوريين ليمنحهم الرئيس مرتبة الشعب، فإن على عضو البرلمان أن يتفوق كثيراً على المواطن العادي في قدرته على الذل والخنوع والتبعية.

تأتي انتخابات مجلس الشعب الحالية، والشعب السوري مشرد في أصقاع الأرض لجوءاً أو نزوحاً أو في الخيام، أو عالقاً على حدود الدول، فضلاً عن مئات آلاف السوريين الذين قتلوا وعشرات الآلاف الذين لا يزالون في المعتقلات والذين لا يعترف النظام بأنهم ينتمون إلى الشعب.

تأتي انتخابات مجلس الشعب والشعب يعيش أحلك مراحل مأساته، انتخابات تدعي أنها ديمقراطية في بلد لا يستطيع شعبه أن ينبس ببنت شفة ليعبر عن رأيه الحقيقي في قيادته، انتخابات لمجموعة من اللصوص والمخبرين مهمتهم التجسس على الشعب

وكتابة تقارير أمنية بحق مواطنيهم، ومن ثم تمجيد الرئيس وشرعنة خياناته وارتكاباته وانتهاكاته، وتلك هي المهمة الأساسية لأعضاء البرلمان بل وهو الهدف الأساسي لاستمرار مجلس الشعب.

فضلاً عن ذلك فإن الميزانية المالية المخصصة لتلك الانتخابات والتي ستهدر مقابل لا شيء في وقت يعيش فيه السوريون أحلك ظروفهم الاقتصادية، تشكل مفتاحاً جديداً لفهم علاقة الرئيس بالشعب وبمفهوم الشعب.

لجان قضائية وقانونية، لجنة عليا، لجان فرعية، مستشارون، مراكز ومشرفون، مجموعة كبيرة من الموظفين المنتشرين في المحافظات السورية، أطنان من الورق والطوابع، وخلايا نحل تعمل على مدار أشهر ومتابعات إعلامية ميدانية، كل ذلك من أجل إنتاج جزء جديد من مسلسل الانتخابات الديمقراطية التي تستنزف كثيرا من ميزانية الدولة المترهلة وكثيرا من وقت المواطن ووقت الدولة، من أجل لا شيء.

إن صور بشار الأسد المنتشرة في كل المراكز الانتخابية، فضلاً عن انتشارها في كل المؤسسات والشوارع وحتى المحال والبقاليات، تعطي صورة واضحة عن سوريا الأسد، وعن موقع الشعب فيها، وعن حقيقة تلك الانتخابات البرلمانية الفائضة كثيراً عن الحاجة، والتي لا تصلح أن تكون عملية تجميل للنظام لا على المستوى الداخلي ولا على المستوى الخارجي، فارتكابات النظام من الصعب إخفاؤها بتلك الأقنعة، ومن المستحيل ترقيعها، ومع ذلك كله يصرّ النظام على الترويج لانتخابات برلمانية وكأنه لا يسعى من ذلك سوى للنكاية وتأكيد انتصاره على السوريين بفضل حلفائه المحتلين، ولتذهب سوريا إلى الجحيم.