icon
التغطية الحية

الاستجابة الإنسانية تحبس السوريين ضمن دائرة مفرغة من العجز

2023.05.05 | 14:21 دمشق

مخيم في الشمال السوري
مخيم في الشمال السوري
Atlantic Council- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

"يريدون أن يبقونا عاجزين ومعتمدين عليهم"، هذا ما ذكره زهير القراط، وهو طبيب متخصص بالجراحة العامة ومدير القطاع الصحي بمدينة إدلب، ويتابع: "بقينا طوال اثني عشر عاماً نقول لهم: لا نريد مساعدات إنسانية، بل مشاريع تنموية، ومشاريع تعافي مبكر، ومصانع ومعامل".

يشير ضمير "هم" هنا إلى بقية دول العالم، أي إلى الأمم المتحدة والولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، وإلى تركيا وتلك الدول التي تعرف عن نفسها بأنها من: "أصدقاء سوريا"، إلا أن مصالحها تحتل لب سياساتها تجاه الملف السوري، كما تشير إلى روسيا وإيران والدول العربية التي تسعى لتطبيع علاقاتها مع الأسد.

تخبرنا الصحفية أروى دامون بأنها تعرف هذه المنطقة جيداً، لكونها سافرت إليها مرات كثيرة لتعمل مراسلة لصالح قناة سي إن إن، بيد أن رحلتها إلى المنطقة في آذار، والتي أتت عقب الزلزالين اللذين دمرا المنطقة، أتت مختلفة، إذ لم تأت إلى هنا لتراقب، بل أتت حاملة رسالة إنسانية برفقة منظمة خيرية تعمل لديها، وهي منظمة الشبكة الدولية للمعونات والإغاثة والمساعدات. بيد أن نظرة أعمق على عالم الإغاثة وطريقة عمله زادت من شعورها بالإحباط والسخط، فألفت نفسها تُتمتم مرات كثيرة: "هذا لا ينفع، وغير صحيح أصلاً".

مضى زمن طويل امتد لأكثر من عقد منذ أن استقر أول نازح سوري في تلك المرتفعات والحقول الممتدة في شمال غربي سوريا، إذ هؤلاء ما هم إلا أهالي جسر الشغور التي تعرضت للقصف في حزيران عام 2011، لذا مع كل مرة تزور فيها دامون سوريا تتذكر لقاءها بطلائع القادمين الذين افترشوا الأرض تحت أشجار الزيتون بحثاً عن مأوى، كما تتذكر الصبية التي وجدتها نائمة في القسم الخلفي من شاحنة أهلها، ثم أخبرتها بأنهم وصلوا إلى هذه البقعة منذ أيام قليلة. وبمرور الوقت، زاد عدد السكان مع نزوح أهالي حلب وحمص وحماة ودمشق وغيرها من المناطق.

وبذلك تضاعف عدد سكان محافظة إدلب بنسبة فاقت ثلاثة أضعاف تعداد السكان الأصلي فيها منذ نزول الناس إلى الشوارع قبل اثني عشر عاما، حيث تضخم العدد من مليون ليتجاوز الثلاثة ملايين، كما تعرضت المشافي والمدارس فيها للقصف دون أن يُعاد بناؤها. أما المصانع فقد توقفت عن العمل أو أصبحت ضمن مناطق النظام اليوم، ما يعني بأن فرص العمل والمنتجات لم تعد متاحة أمام من يعيشون في شمال غربي سوريا، حيث يسيطر الثوار. وقد تمت زراعة بعض الأراضي، إلا أن غالبيتها لم تبذر فيها بذرة، ما يعني وجود إمكانيات لا فرص في تلك المنطقة.

في كل سنة، كما هي الحال طوال الفترة التي امتدت لأكثر من عقد، تظهر دعوات تطالب بزيادة التمويل المخصص للسلل الغذائية، ولحملات الشتاء، ويتم تزويدها بصور تظهر وجوه صغار يرتجفون بسبب البرد والصقيع. وفي كل عام أيضاً، تفشل جهود التمويل في تحقيق أهدافها، وتبقى تلك الدعوات غير مسموعة. وسواء أكان ذلك عدلاً أم ظلماً، ثمة مشاعر سائدة في إدلب ترى بأن الوكالات الأممية هي من يقف خلف المطالبة بالمأوى وذلك حتى تبقي الناس في الخيام.

التقت أروى دامون بأحلام الأحمد وهي تشق طريقها بصعوبة وسط الوحل الذي وصل إلى ركبتيها، بعدما دمرت الفيضانات خيمتها الصغيرة الواقعة على أحد أطراف الأراضي الزراعية المنتشرة في إدلب، فقد كانت الأمطار شديدة لدرجة سحبت معها كل شيء موجود داخل بعض الخيام، فأغرقت الملابس وأدوات الطبخ والمراتب والبطانيات وأكياس الأرز والبطاطس الصغيرة وبرطمانات المكدوس والمخلل التي تم إعدادها خصوصاً من أجل رمضان.

كالآلاف من البشر غيرها، نزحت أحلام بسبب الحرب، حيث هربت بما ترتديه من ثياب دون أن تحمل معها أي شيء آخر، ومنذ ذلك الحين لم تتمكن أسرتها من الوقوف على قدميها من جديد لتسترجع أقل ما خسرته.

وهذا ما جعلها تعبر عن ذلك بفصاحة وهي تقول: "لماذا نعيش هنا؟ من أجل العمل، لأننا نحن النساء نعمل في الأراضي الزراعية، بما أن هذا هو العمل الوحيد المتوفر أمامنا".

تواصل أحلام حديثها عن واقعها فتقول: "أعني بأننا أخرجنا أنفسنا من ذلك الواقع" وهنا بدأ صوتها يرتجف وهي تتحدث عما بوسعهن أن يستخرجنه من الوحل، إذ أمضت أسرتها سنين طويلة حتى تحرز هذا التقدم الضئيل، أي العيش في ثلاث خيام، إحداها تستخدم كمطبخ، ولكن على الرغم من عمل أربعة من أفراد الأسرة في الحقول، فإنهم لا يستطيعون تحمل نفقات بيت له جدران، لأن هذا مستحيل مع  ثلاثة دولارات يدرها عليهم عملهم يومياً، ولكن الشوق لتلك الجدران مايزال موجوداً.

يتمنى الكبار في تلك الأسرة أن يسندوا ظهورهم إلى جدار ما، في حين لا يفهم الصغار معنى العيش وسط بناء مستقر له جدران.

تجاوز الاستجابة الطارئة

مع زيادة التضخم وارتفاع الأسعار عالمياً، غاص الشعب في أحضان الفقر أكثر، ومع ذلك لم تلب الأمم المتحدة سوى نصف هدف تمويلها المخصص لسوريا، فالفكرة منذ أمد بعيد تدور حول تمويل أنواع من المشاريع التي تخلق حالة استقلال أكبر في شمال غربي سوريا، مثل بناء مراكز إيواء مناسبة وتشييد المصانع والمدارس، إلا أن هذه الفكرة محفوفة بكثير من المخاطر، في ظل القصف المتواصل وغير المتوقع الذي تشنه روسيا ونظام الأسد.

ولكن خطوط القتال بقيت مستقرة طوال فترة امتدت لأكثر ثلاث سنوات، كما لم يعد هدير الطائرات الحربية يسمع في السماء لينذر بالموت والخراب، إلا أن العمل الإطاري الإنساني حول إدلب مايزال ينظر إليه من زاوية الاستجابة الطارئة، وهذه الفكرة أصبحت بحاجة للتغيير.

بصرف النظر عن الاستجابة الطارئة للزلزال الذي وقع منذ فترة قريبة، يتم تخصيص جل فرص التمويل لمشاريع تنموية صغيرة في سوريا، وتشمل التدريب المهني والمنح الصغيرة، إلى جانب تخصيص تمويل للتدخلات المعنية بالمشاركة المدنية، وهذه الأنشطة لا تخدم السكان إلا بنسبة ضئيلة، بل وتسمح للجهات الفاعلة من الخارج أن تنسب لنفسها دعم العملية التنموية هناك.

إن المشاركة المدنية ضرورية وبوسعها أن تجمع بين العقول صاحبة الإلهام، إلا أنها لن تجدي أي نفع عندما تقوم بناء على رغبات الجهات المانحة وليس بناء على الوقائع الموجودة على الأرض. وهنا يشرح لنا حسان الموسى وهو ناشط في المجال الإنساني والتنموي الوضع بقوله: "لا يمكنك أن تتوقع من شخص يركز على فكرة البقاء بحد ذاتها، أي على الوجبة القادمة، أن يتمتع بملكات عقلية تخوله التركيز على أي شيء آخر، وتلك هي الطريقة التي يبقوننا من خلالها ضعفاء".

كما أن التدريب المهني والمنح الصغيرة مهمة، بيد أنه لا بد من زيادتها ورفع سويتها حتى تخلق تأثيراً حقيقياً.

وفي الوقت عينه، ثمة انقسام بين الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، ليس فقط حول تمرير المساعدات عبر الحدود، بل أيضاً حول ضرورة التركيز على الشيء العاجل الطارئ وعلى الإنعاش المبكر أو التنمية، بيد أن حلقة الطوارئ المفرغة التي حبس بها شمال غربي سوريا طوال فترة امتدت لأكثر من عقد من الزمان خلقت حالة من الاعتمادية ومن الفقر المزمن والجهل وخيبة الأمل، لدرجة باتت معها حتى الاستجابة لا تغطي الاحتياجات، وذلك لأن مشاريع الإنعاش المبكر والتنمية التي يجب أن تكون أساس العمل الإطاري الساعي لكسر تلك الحلقة، قليلة جداً، أو صغيرة جداً، أو قصيرة جداً، ولذلك أصبح نمط التوجه الحالي يصيب السكان بحالة من الشلل والعجز.

وعلى الأرض، يبدو الوضع المزري مقصوداً إلى حد كبير، إذ هو عبارة عن محاولة لإبقاء السكان عاطلين عن العمل وبلا تعليم، إذ يكفي لبعض المسؤولين القادمين من الخارج أن يتحدثوا عن مشاريع معينة حتى يظهروا للناس أنهم أناس طيبون، ولكن لا يكفي أبداً بالنسبة لهم كسر حلقة اعتماد الشعب على المساعدات، ولهذا لا بد من زيادة الأموال المخصصة للمشاريع التي تخلق فرص عمل على المدى البعيد مع توفير التعليم لمن لم يحصل عليه مطلقاً.

إن مساعدة الشعب السوري تحتاج إلى شجاعة على المستوى الأخلاقي، وهذا المستوى لم يكن موجوداً طوال فترة طويلة من الزمن، كما يحتاج الأمر ممن يمسكون زمام الأموال والسلطة في شمال غربي سوريا لأن يضعوا سياساتهم ومصالحهم جانباً، وذلك لأن الشعب السوري يستحق فرصة ليستعيد قوته وتحكمه بحياته، وذلك هو الجزء الإنساني الحقيقي الذي يجب علينا فعله من أجل هذا الشعب.

  المصدر: Atlantic Council