icon
التغطية الحية

"مالي بأطمة لا شاة ولا جمل".. حكاية مخيم عجوز

2023.03.09 | 06:43 دمشق

مخيم أطمة قرب الحدود التركية
مخيم أطمة بريف إدلب الشمالي على الحدود التركية
+A
حجم الخط
-A

لم يدر الشاعر الراحل نادر شاليش أن قصيدته الشهيرة "رسالة روح"، التي ألقاها يوماً بين أشجار الزيتون في منطقة أطمة الحدودية، ستكون وثيقة وصفية للتغريبة السورية، وأن وتد خيمته الذي دقه في تلك الأرض سيكون حجر أساس لأكبر تجمع للنازحين في البلاد.

"مالي بأطمة لا شاة ولا جمل"، بهذا الشطر اختصر شاعر المخيمات آنذاك مشقة بعده عن بلدته كفرنبودة وواقع طليعة المهجّرين الذين كانوا قد التحفوا السماء قرب الحدود التركية بعد أن نزحوا من منازلهم في ريف حماة الشمالي هرباً من آلة النظام العسكرية.

بدايات تشكّل مخيم أطمة، مراحل توسعه، وربما إزالته في قادم الأيام، هي تفاصيل سيوثقها التاريخ لأجيالٍ قادمة، لكن كيف ومن سيحفظ ذاكرة طفل وُلد وشبّ في صندوق نايلون، أو الدموع الأخيرة لكهل ذرفها شوقاً لقريته متحرّقاً للعودة حتى وإن كان محمّلاً بتابوت؟

هذه المادة تحاول، ما أمكن، أن توثّق ذكريات عدد ممن دقّوا أوتاد الخيام الأولى، رحلة نزوحهم، لياليهم في العراء، وأحلامهم وآمالهم.

مخيم عجوز

ربما هو المصطلح الأقرب لوصف مخيم أطمة بعد أن أكمل عامه العاشر فيما لو قورن بأعمار معظم مخيمات النازحين في الداخل السوري، عجوز بما مرّ عليه من أحداث وتغيّرات أوصلته إلى ما هو عليه اليوم.

المخيم، الذي تمدد خلال الأعوام على مساحة 5.43 كم مربع ملتهماً أشجار الزيتون متحوّلاً من تجمع عشوائي يضم خيماً مبعثرة إلى مدينة نازحين "شادرية"، يقطنه 37 ألف عائلة، أي نحو 185 ألف شخص، بحسب مسؤول دائرة الإحصاء في أطمة أحمد الخليل.

توسّع مخيم أطمة خلال السنين

ويضم التجمّع 104 مخيمات مقسّمة إلى قاطعين، شمالي وجنوبي، الأول أنشئ مطلع عام 2012 والثاني أُقيم امتداداً له على مدار سنوات. لكل مخيم اسم وحكاية.

وقال أحمد الخليل لموقع تلفزيون سوريا، إن أولى الخيام نُصبت في المنطقة أواخر عام 2011 من قبل مجموعة من نازحي ريف حماة الشمالي بعد أن فرّوا من قراهم التي كانت تواجه حملة قصف "شرسة" من قبل النظام السوري.

ذكريات صباحات وليالي النزوح الأولى

"شهرين تحت الزيتون، بالليل تمطر علينا وبالنهار تصحى"، بهذه الكلمات وصفت صباح الفردوس لياليها الأولى في أطمة بعد نزوحها وعائلتها من قرية كفرزيتا.

تقول صباح لموقع تلفزيون سوريا: "وصلنا مع 4 عائلات إلى المنطقة أواخر عام 2011، قصدنا المنطقة لقربها من الحدود ولبعدها عن قصف النظام، لم يكن لدينا خطط ولم نكن نعلم ما ينتظرنا، قضينا أياماً وليالي في العراء، سقفنا أشجار الزيتون وحصيرتنا الطين، دون أدنى مقومات حياة".

حطّت صباح رحالها في أطمة برفقة زوجها و6 أطفال، 3 إناث و3 ذكور، إضافة إلى أخت زوجها التي كانت قد أجرت حديثاً عملية جراحية في القلب، وحول ذلك تقول: "أطفالي شبّوا في المخيم، إحدى بناتي كان عمرها عند وصولنا سنة و8 أشهر، كانت ما تزال ترضع، اليوم هي في الصف الثامن (14 عاماً)، والثانية كانت في الصف الثامن اليوم بات لديها أطفال، وحالها كحال الثالثة التي كانت بصف الأول (5 أعوام) واليوم أصبحت أماً".

وأضافت أن أحد أولادها الذكور كان عمره 9 أعوام حين بدأت رحلة نزوحهم واليوم بات أباً لفتاتين اثنتين.

وتابعت: "كثيرة هي المآسي التي عايشناها وتكاد لا تُحصى، لكن إن وددت حصر أشدها، بعيداً عن الألم النفسي والجسدي الذي لن أتمكن من وصفه، فكانت صعوبة تأمين رغيف الخبز وما يترتب على ذلك من تبعات".

"مع مرور كل شهر كنا ننتظر الفرج في الشهر الذي يليه وهكذا حتى بدأنا نعد السنين. لنا في المخيم 11 عاماً، تعايشنا مع واقعنا غصباً، وما زلت حتى اليوم أنتظر الفرج وكلّي أمل بالعودة".

بات المخيم نهاية العام 2012 مقصد الصحفيين والناشطين الإغاثيين والمنظمات والسوريين المغتربين الذين وفدوا إليه لتقديم ما يمكن. من بين هؤلاء كانت لينا عطار مؤسسة "مؤسسة كرم"، ومن هناك نشرت مجموعة من الصور مع تغريدة قالت فيها: "إذا كنت تعيش في مخيم أطمة، فأنت تمشي محاطاً بالبؤس بينما تواجه تلال المنزل على مسافة قريبة".

صور من مخيم أطمة في منتصف ونهاية العام 2012

وكتب الصحفي اينجوس كوكس: مخيم للاجئين في مهده بالقرب من أطمة. قيل لنا أن هذه المنطقة كانت خالية تمامًا منذ بضعة أيام فقط.

ذكريات محمد.. محكومون بالأمل

ربما يتشارك النازحون "القدامى" في أطمة كثيراً من الذكريات، لكن يبقى لكل منهم قصة لا تُختصر بالكلمات. إحدى هذه القصص هي لمحمد فرج (51 عاماً) الذي استقر في أطمة أواخر عام 2011 مع زوجته وأطفاله الستة، ذكران و4 إناث.

تفاصيل رحلة نزوحه، بدءاً من كفرزيتا شمالي حماة وصولاً إلى أطمة مروراً بعدة محطات، والمآسي التي عايشها خلال السنوات الماضية، قصص أولاده الذين وصلوا إلى المخيم أطفالاً واليوم باتوا أرباب أسر، يرويها محمد بنفسه..

أمنيات حسن.. شجرة زيتون بجبل الزاوية ولا قصر في أطمة

"بتمنى أقعد بعب حيط بضيعتي ولا أقعد هون"، تكاد تكون هذه الأمنية الوحيدة للسبعيني حسن محمود العثمان النازح من جبل الزاوية، قرية كفرعويد، إلى مخيم أطمة.

يقول العثمان: "الحياة هنا صعبة جداً، عند وصولنا إلى أطمة عام 2012 عانينا الأمرين، وما نزال. ليس لدي دخل، نعتمد على المعونة (سلة إغاثية يقدمها برنامج الأغذية العالمي WFP) والتي لا تكفي 10 أيام، قوت لا يموت".

ويتحدث العثمان، الذي تزوج أولاده الأربعة ورزقوا أطفالاً في المخيم، عن لحظات حزن لا يستطيع الهروب منها حين يسأله أحفاده عن مسقط رأسه وعن ذكرياته فيها.

"ياجدو فرجينا الضيعة"

يقول: "أحفادي لا يعرفون كفرعويد سوى بالاسم، يطلبون مني أحياناً أن أريهم إياها. كيف لي ذلك؟"، ويضيف: "أبكي في كل مرة يفُتح فيها هذا الحديث، وفي كل مرة يسألونني لماذا تبكي؟. المشكلة أنهم لن يستطيعوا استيعاب مشاعري وهم الذين لا يعرفون سوى هذه الخيمة".

ويتابع: "شعور العجز لا يفارقني، ليس لدي القدرة على تلبية طلبات أحفادي البسيطة التي قد تكون ثانوية عند كثيرين. لم نستطع تأمين المازوت هذا العام ولم يوزّع علينا، كيف يمكن لهذا الشتاء أن يمضي؟".

هُدم منزل حسن إثر استهدافه من قبل مدفعية النظام، وصودرت أرضه التي كانت تضم أشجار تين وزيتون: "راحت ما بقا نسترجي نقربها صارت بإيد الأسد".

ويختم حديثه بالقول: "أتمنى لو أنّي مت في كفرعويد ولم آتي إلى هنا، أتمنى أن أجلس يوماً تحت شجرة الزيتون مع أولادي في مسقط رأسي، لا أريد منزلاً، شجرة الزيتون في كفرعويد ولا قصر في أطمة، هناك حيث قبر أبي وقبر جدي وتاريخي".

مخيم "دمعة نازح".. سوريا مصغرة في أسماء المخيمات

104 مخيمات في تجمع أطمة، لكل منها اسم وحكاية، منها ما سُمّي نسبة لمدن تجمّع أبنائها ضمن تكتل واحد، مثل كفرنبودة المنكوبة وكفرسجنة، ومنها أطلق عليه أسماء شخصيات برزت خلال سنوات الثورة، كمخيم الساروت، حتى أن عدداً من المخيمات سُميّت بأسماء قنوات إخبارية "كان لها دور في نقل صوت الشعب السوري"، كما يقول قاطنوها، مثل مخيم الجزيرة.

المخيمات في تجمع أطمة

محمد عزو كان له يد في تسمية أحد المخيمات قبل 5 سنوات، حين وصل إلى أطمة هو وعائلته نازحاً من قرية قسطون في ريف حماة على متن دراجة ذات عجلات ثلاث.

"دمعة نازح"، كان هذا الاسم الذي اختاره للمخيم الذي دقّ أول وتد فيه، إذ يقول إن الاسم خطر في باله عند رؤية ابنتيه تبكيان وهما على متن الدراجة في طريقهم إلى أطمة بعد أن تركن أصدقاءهنّ وألعابهن، ومنذ تلك اللحظة لم يفارق الاسم رأسه.

وأضاف أنه استقر عند وصوله إلى أطمة في أرض طينية أقام عليها خيمته، لتبدأ بعدها خيم عشرات العوائل من أبناء بلدته في التجمع حوّله، وحين طًرحت فكرة إطلاق اسم على التجمّع كان اسم "دمعة نازح" هو الخيار الأول.

قد لا تختصر ذكريات ثلاثة مهجّرين التقطتهم عدسة الكاميرا صدفةً في مخيم أطمة، عشرات آلاف الحكايا والمآسي التي تضجّ بها مئات المخيّمات المنتشرة في شمال غربي سوريا، لكنّها تشير إلى قسوةٍ ما تزال تصفع قلوبهم منذ 12 عاماً، في خيام يحرقها الصيف مرّة ويفتك بها الشتاء مرّة أُخرى.