الإعلام في خدمة إباحة الدم

2023.10.19 | 06:08 دمشق

الإعلام في خدمة إباحة الدم
+A
حجم الخط
-A

تصف صحيفة الغارديان عملية طوفان الأقصى بأنها "أحداث 11 سبتمبر الإسرائيلية". بينما تتسابق وسائل الإعلام الدولية، بما فيها المرموقة منها، على تشبيه مقاتلي حماس بالدواعش الذين يحتجزون "السبايا"، ويقتلون المدنيين والأسرى. قرأنا جميعاً بل وسمعنا الرئيس الأميركي بايدن وهو يتحدث عن قطع مقاتلي حماس لرؤوس الأطفال، قبل أن يعتذر البيت الأبيض عن ذاك التصريح الذي لم تثبت صحة العلومات الواردة فيه.

يبقى السعار الحقيقي (الذي يستحق الدراسة كحالة نموذجية) هو ما يحدث في الإعلام الألماني. ما أدى لتجييش هائل في الشارع ضد الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، وليس ضد حماس فقط. فأن تصدر التعليمات بفصل أي طالب يرتدي الكوفية، أو يحمل العلم الفلسطيني من المدرسة، فهذا يفوق الموقف الإسرائيلي نفسه. وأن يمنع ويجرم أي تأييد أو دعم للضحايا الفلسطينيين في غزة، فهذا ما لا يحدث في إسرائيل، على شدَّة ما يحدث هناك. ربما يغدو الأمر مفهوماً قليلاً، مع مراجعة التاريخ الألماني اتجاه اليهود، وقراءة فظائع الهولوكوست.

بداية يجب أن أوضح شخصياً، أنني بطبيعتي لا أنحاز لأية حركة أو تيار سياسي يستخدم ويوظف الدين (أي دين) في السياسة. وإذا أضفنا للأمر أن يكون مدعوماً من إيران، كحالة حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، ويتحرك ضمن المشروع الإيراني للمنطقة، فسيزداد موقفي شدّة من مثل تلك التيارات. أعلم أن كلامي هذا لن يعجب البعض، ولكن هذا أنا، وهذا رأيي بدون أية توريةٍ تراعي المختلفين. ولكن هل يمكن أن ننظر للأمر اليوم فقط من هذا المنظار؟ ولأشرح فكرتي أكثر سأسأل، هل كانت حركة كحماس لتجمع كل أولئك المقاتلين والمناصرين، لولا بيئة الظلم والقهر وسلب الحرية التي تعيشها تلك البيئة، بسبب الاحتلال؟

وأكثر من ذلك، لطالما اعتقدتُ، أن حماس ليست جزءاً أصيلاً من مشروع الهيمنة الإيرانية على المنطقة. المشروع الذي يعتمد على حوامل طائفية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. حماس (وهي عقدياً خارج الطائفة) بالنسبة لإيران لها دور وظيفي مرحلي فقط. طبعاً هذا لا يعني أن مقاتلي حماس وكثير من كوادرها، يؤدون فقط هذا الدور الوظيفي. هم بالتأكيد أصحاب قضية، وقضية عادلة، لكنهم للأسف يعالجونها بالأسلوب الإيراني. وإن كان هذا غير مبرر، إلا أنه يبدو مفهوماً، بسبب أن كل أفق آخر لمقاومة الاحتلال قد سُدَّ في وجه عدالة القضية الفلسطينية، وليس هنا مجال الحديث عن تراجع قضية فلسطين في أجندات الدول العربية التي تبنتها وحملتها لعقود، ولا عن تآكلها حتى في الوجدان العربي الشعبي.

في كل المواد الصحفية التي راجعتُها، لم يعالج أحد من كتابها، مسألة 800 طفل فلسطيني فقدوا حياتهم خلال أسبوع، ولا مسألة 500 من النساء سقطن تحت القصف الهمجي الإسرائيلي على قطاع غزة

بالعودة للإعلام الغربي، فهو يناقش ما حدث يوم 7 تشرين أول/ أكتوبر، وكأنه معركة تجري بين طرفين في حالة صراع طبيعية، بمعزل عن جريمة الاحتلال المستمرة منذ عقود. متبنياً مقولة أن دولة آمنة تعرضت لهجوم همجي من قبل الإرهابيين، قبل أن يتابع هذا الإعلام القصص الشخصية للقتلى أو الرهائن من الجانب الإسرائيلي، ويعرض مآسيهم. بالتأكيد أنا أعتبر الكثير منها مآسي إنسانية حقيقية بالنسبة لعائلات هؤلاء، لكن الكارثة في الأمر أن هذا الإعلام لم يلتفت للضحايا الفلسطينيين لا قبل العملية ولا بعدها.

في كل المواد الصحفية التي راجعتُها، لم يعالج أحد من كتابها، مسألة 800 طفل فلسطيني فقدوا حياتهم خلال أسبوع، ولا مسألة 500 من النساء سقطن تحت القصف الهمجي الإسرائيلي على قطاع غزة. وكأن كتّابها يتبنون نوعا من المطابقة بين حماس وكامل سكان قطاع غزّة الذين يستحقون العقاب. أي إنهم يغفلون الفارق بين أكثر من مليوني مدني، رجال ونساء وأطفال، وبين المقاتلين. ليبدو الأمر وكأنه تمهيد إعلامي لتبرير تدمير القطاع، بغض النظر عما سيخلف ذلك من الضحايا المدنيين.

تسأل صحيفة ديرشبيجل سيدة ألمانية مسؤولة عن الاندماج، عن مقطع فيديو يتم تداوله. يبدو في الصورة مُدرساً في منطقة نيوكولن وهو يصفع طفلاً على وجهه بسبب أنه كان يلوح بالعلم الفلسطيني في باحة المدرسة. تجيب السيدة بأنها شاهدت المقطع لكنها لا تستطيع قول أي شيء، وترى أن وضع المدارس يزداد توتراً، لذا تم التخطيط لعقد اجتماع أزمة مع مديري المدارس. "يجب أن يكونوا قادرين على السيطرة على الوضع، فيما لو اندلعت الكراهية لإسرائيل في باحات المدارس".

إذاً مجرد حمل العلم الفلسطيني بالنسبة لتلك السيدة هو حالة تعبر عن كراهية إسرائيل! وكأن لا احتلال ولا تشريد للفلسطينيين، ولا أياً من الجرائم التي قامت بها حكومات إسرائيل المتعاقبة ضد الفلسطينيين. وأكثر من ذلك، كأن لا سياق تاريخي لهذا الصراع بدءاً من إقامة دولة من المهاجرين اليهود على أرض تم طرد سكانها، وصولاً إلى تجريم من يعارض جريمة الاحتلال تلك. رغم أن انفجار من أجبروا على ترك أراضيهم وعاشوا محاصرين في سجن الاحتلال، هو أمر طبيعي، وكان يتكرر على هذا النحو عبر التاريخ، ومن كل الشعوب التي عانت من الاحتلال.

هل يبدو لكم أنني أكتب هذه المرَّة محكوماً بالعاطفة؟ لن أنكر ذلك، فالصور التي تأتي عن الضحايا وعن التدمير في غزّة تحرك الوجدان والعواطف آنيَّاً أكثر من القدرة على التفكير بعقل منطقي بارد. ولكن هذا لن يمنعني من رؤية الأمر من وجوه أخرى. فحماس قدمت للإعلام مادة جاهزة لتسويقها أمام الرأي العام الغربي، ذاك الإعلام الذي لم يكتفِ بإدانة حماس وحسب، بل يبدو وكأنه ذهب نحو إدانة الشعب الفلسطيني وقضيته.

"نحن لا نحتفل بوفاة خصومنا" قولٌ ينسب لإسحاق رابين. سيستشهد به الكاتب فريدريك ميرز ليضيف بأنه "لو قام أحد مقاتلي حماس بجر جثة مدني في الشوارع، فسوف يُهتَف له، وإذا قام جندي إسرائيلي بذلك فسوف يعاقب" ليصل إلى الاستنتاج بأن إسرائيل مختلفة، وأن خصومها، حماس ومؤيدوها، يمكن أن يسكرهم موت خصومهم الإسرائيليين حتى لو كانوا نساء أو أطفال.

يستشهد الرجل بمقطع مصور ظهر فيه مقاتلون من حماس يضعون جثّة فتاة بثيابها الداخلية في خلفية شاحنة صغيرة، ويسيرون بها في شوارع غزة، مهللين ومرددين العبارة الأشهر غربياً "الله أكبر"، العبارة التي تسِمُ، كعلامة تجارية مسجلة، الإرهابيين في الذهن الغربي. تعلق إحدى الناشطات النسويات الألمان على ذات الصورة بالقول "يعتبر جسد الأنثى بالنسبة للإرهابيين التابعين لحماس وإرهابيي تنظيم "الدولة الإسلامية" رمزا للقوة التي يجب كسرها بأي ثمن".

يشاهد الغربيون جسد شاني لوك بحسرة وحزن، وهذا محق، لكن الكارثة أنهم لا يشاهدون على وسائل إعلامهم إلا نادراً صور مئات الأطفال الغزّيين الضحايا وهم يدفعون ثمن ما لم يفعلوه

سرعان ما أصبحت الشابة العشرينية "شاني لوك"، وهي تحمل الجنسيتين الألمانية والإسرائيلية، أحد أهم وجوه الحرب ضد حماس في الإعلام العالمي والألماني على وجه الخصوص، بعد انتشار المقطع المصور. لوك رهينة احتجزت من مهرجان موسيقا كان يقام قريباً من غزّة. وهي الصورة الأبرز اليوم في الإعلام الألماني المطالب بضرورة تحريرها بعد أن بثت والدتها تسجيلا مصورا تقول فيه أن ابنتها ما زالت حيّة وتعالج من إصابة بالغة في الرأس في أحد مشافي غزّة.

يشاهد الغربيون جسد شاني لوك بحسرة وحزن، وهذا محق، لكن الكارثة أنهم لا يشاهدون على وسائل إعلامهم إلا نادراً صور مئات الأطفال الغزّيين الضحايا وهم يدفعون ثمن ما لم يفعلوه. وكأن هناك موافقة، أو على الأقل غض نظر، عن إبادة الفلسطينيين باعتبار أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها بمواجهة الإرهاب بهذه الطريقة الإجرامية. هل كل الإعلام الغربي يعمل على هذا النحو، وعلى نفس الموجة؟ بالتأكيد لا، ولكنه الصوت الأعم والأقوى، حتى ليكاد يغيب أي صوت آخر.