الأرض اليباب.. نبوءة إليوت والعالم الثالث

2022.03.30 | 06:35 دمشق

yil65yhb0ltnpan5hqsv.jpg
+A
حجم الخط
-A

أثناء كتابة الشاعر والمسرحي الأنغلو أميركي توماس ستيرنز إليوت (ت س إليوت) كما اشتهر، لقصيدته العظيمة الأرض اليباب أو الأرض الخراب قيل إنه أصيب باضطراب عقلي استدعاه إلى تقديم إجازة طويلة من البنك الذي كان يعمل به ليذهب برفقة زوجته إلى منتجع صحي للاستشفاء، ثم إلى سويسرا للعلاج على يد أشهر الأطباء النفسيين، لكن الأهم في رحلته تلك كان إكمال كتابته لقصيدته الأشهر، والتي نشرت لأول مرة عام 1922 واعتبرت وقتها أهم عمل شعري حداثوي في زمنها، والأكثر غرابة وغموضا، والتي تحولت لاحقا إلى مرجع رئيس لشعراء الحداثة، خاصة الرومانطيقيين في العالم ومنهم، بطبيعة الحال، الحداثيون العرب، حتى قيل إن بدر شاكر السياب كتب قصيدته الشهيرة (أنشودة المطر) بعد أن ألهمته رائعة إليوت تلك الأجواء الفجائعية التي زخرت بها القصيدتان.
يتحدث إليوت في أرض اليباب عن أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، عن الخراب الذي ساد أوروبا، وعن خيبة الأمل التي أصيب بها جيل ما بعد الحرب، متصورا شكل العالم بعد الحرب: عالم يحتله الخوف والذعر والهواجس، عالم كل ما فيه عقيم وبلا جدوى، الأحلام والرغبات والشهوات، عالم صار فيه الخراب وفوضى الروح هي السائدة، كان إليوت يشعر أن الحضارة الأوروبية التي دفع الأوروبيون من أجلها ثورات طويلة وملايين من الضحايا قد بدأت بالموت، ذلك أن الفراغ والفوضى والرغبة في عدم الانتماء إلى شيء أو إلى مكان أو إلى هوية جعل من البشر مجموعات تعيش من أجل لا شيء، فالحضارة التي تنتج الحروب هي حضارة خانقة وسوف تأخذ معها البشرية إلى هاوية كبيرة لن تنجو منها، لكن إليوت، المسيحي، انتصر لرغبة الخلاص والانعتاق في قصيدته حين كتب عن التوق إلى الخلاص من قيد الحضارة التي رآها مدمرة للبشرية منحازا إلى عذرية الطبيعة حيث النقاء والربيع وبعث الحياة حتى لو كان ذلك سوف يحدث في المخيلة فقط، فالربيع في الواقع لن يأتي بعد هذا الشتاء الذي خلفته الحرب، وإن أتى فسوف يحمل معه العذاب: (إبريل أقسى الشهور، يخرج الليلك من الأرض الميتة، يمزج الذكرى بالرغبة، ويحرك الجذور الخاملة بمطر الربيع/ من هذه النفايات المتحجرة؟ يا بن آدم أنت لا تقدر أن تقول: أو تحزر، لأنك لا تعرف غير كومة من مكسر الأصنام، حيث الشمس تضرب، والشجرة الميتة لا تعطي حماية، ولا الجندب راحة، ولا الحجر الصامت صوت ماء/ لسوف أريك الخوف في حفنة من تراب).

كانت نبوءته في القصيدة عن أن حضارة أوروبا سوف تتسبب بموت البشرية محقة، ذاك أن الحرب العالمية الثانية كانت أكثر عنفا ودموية من الأولى

لم يكد يمضي خمسة عشر عاما على نشر قصيدة الأرض اليباب حتى قامت الحرب العالمية الثانية، التي عاش إليوت تفاصيلها كما عاش تفاصيل الحرب الأولى، كانت نبوءته في القصيدة عن أن حضارة أوروبا سوف تتسبب بموت البشرية محقة، ذاك أن الحرب العالمية الثانية كانت أكثر عنفا ودموية من الأولى، حيث الفاشية والنازية في أوجهما، وحيث ما نتج عن تلك الحرب كان المزيد من الخراب والضحايا والفوضى، دمرت الحرب العالمية الثانية كل المقدرات الصناعية والعلمية في العالم، حيث تم وضعها بالكامل في خدمة الآلة العسكرية والمجهود الحربي، ولأول مرة في العالم يتم استخدام قنابل ذرية مدمرة، كانت المجازر فيها متنقلة وانتشرت الأمراض والأوبئة والجوع، دمرت مدن بأكملها وتشردت شعوب بأكملها، وبعد أن رتب العالم مصالحه وتحالفاته عند انتهاء الحرب وآثارها بدأت الحروب الباردة التي أبقت البشرية زمنا طويلا أسيرة سياسة المحاور بكل ما رافق ذلك من حروب هنا وهناك، واحتلالات واستعمار متعدد الأشكال والطرق.

لم تعرف البشرية الاستقرار الحقيقي إلا لمدة زمنية قصيرة، نعمت فيها أوروبا والعالم المتقدم بالهدوء والأمان السياسي والاجتماعي نافضة عنها آثار الحروب بشكل شبه نهائي، لكن في المقابل، وحتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وسيطرة محور واحد على العالم، كان ذلك العالم يغض النظر عن سيطرة الاستبداد والعسكر على شعوب العالم الثالث، أو لنقل، كانت سياسات العالم الأول تدعم أنظمة الاستبداد في العالم الثالث، وتدعم كل ما يبقي هذا العالم متخلفا وفقيرا وجاهزا بشكل مستمر لاستقبال الإنتاج اليومي لمصانع الأسلحة التي يقوم جزء كبير من الاقتصاد الأوروبي والأميركي عليها. دعمت سياسات العالم الأول أنظمة الاستبداد ليس فقط في وجودها القديم بكل ما أنتجه تسلطها من قمع وفقر وجهل وتخلف، بل دعمتها أيضا في ثورات شعوبها عليها، لا سيما بعد عام 2011 حيث حصلت أكبر خديعة سياسية في التاريخ البشري، حينما كانت أنظمة العالم المتقدم تعلن علنا دعمها للثورات وللشعوب الثائرة بينما في الخفاء كانت تقدم كل ما يلزم للأنظمة القمعية كي تستمر في مهامها الإجرامية، أو تدعم الثورات المضادة معيدة إنتاج نفس الأنظمة بأساليب جديدة (عسكرية ودينية فاشية) تتفوق في القمع على سابقاتها، وتسحب من الشعوب المكتسبات السابقة التي حصلت عليها نتيجة نضال شعبي وحزبي ونقابي طويل المدى؛ في الوقت الذي فتحت فيه أبوابها للهاربين من الحروب والجوع وكأنها بذلك تجري عملية تبييض لسياساتها الداعمة للخراب في بلاد العالم الثالث.

التاريخ التدميري والقاتل الذي جعل من إليوت مريضا نفسيا يحتاج إلى علاج حين كتب عن هذا التاريخ  قصيدة عظيمة سوف تظل وثيقة أبدية على الخراب الذي أنتجته الحضارة الغربية

ورغم أن الأرض اليباب كانت قصيدة عن جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى في أوروبا إلا أن نبوءة كاتبها كانت عن البشرية كلها، فحداثة الحضارة الغربية بنيت على استعلاء مركزي غربي ينتج وسائل الموت التي تباع للعالم الهامشي، وينتج معها سياسات تدعم خراب هذا الهامش أو إبقاءه هامشا أبديا تتجدد فيه النعرات والحروب ويسيطر على شعوبه الخوف والتوجس الدائم ما يجعلها في حالة تحفز يستلزم المزيد من الاتكال على موارد العالم الأول، ويبقي حكامها في حالة ارتهان أبدي نتيجة له، تتلقى منه المساعدات المالية والعسكرية بينما تزداد هي فسادا وإجراما؛ أما العالم الثاني البعيد قليلا عن المركزية الغربية، فها هو يقدم نفسه بوصفه بديلا يحمل مواصفات العالمين الأول والثالث، فهو عالم متقدم عسكريا وعلميا وتقنيا لكنه أنظمته لا تقل إجراما وفسادا وقمعا لشعوبه عن أنظمة العالم الثالث، ولديه كل المقومات التي تمكنه من أن يكون مستعمرا وغازيا وكأنه يعيد إنتاج التاريخ نفسه، التاريخ التدميري والقاتل الذي جعل من إليوت مريضا نفسيا يحتاج إلى علاج حين كتب عن هذا التاريخ  قصيدة عظيمة سوف تظل وثيقة أبدية على الخراب الذي أنتجته الحضارة الغربية جنبا إلى جنب اكتشافاتها العلمية المذهلة وما قدمته للبشرية في مجال التكنولوجيا والطب والفضاء؛ (سوف أريك الخوف في حفنة من تراب) يقول إليوت، التراب الذي يحوله الغرب إلى ذهب يمكنه أن يجعل شعوبه تعيش بترف أمان هو نفسه التراب الذي يحمل الخوف والهلع لشعوب العالم الثالث ويبقيها في حالة تخلف لا يبدو أنها ستنتهي قريبا.