اعتقال العقل.. عندما يصبح العقل منبوذاً ومتهماً

2024.01.10 | 06:34 دمشق

اعتقال العقل.. عندما يصبح العقل منبوذاً ومتهماً
+A
حجم الخط
-A

ليس انهيار الاقتصاد، والجيش، والسياسة وغير ذلك من ركائز المجتمع هو أفدح نتائج الاستبداد، الأفدح من كل هذا هو اعتقال العقل، أو نبذه واتهامه، ووضعه في قفص الاتهام، وتكفيره.

لا بدّ من الاعتراف بداية بحقيقة يصعب جداً نقضها، لا بل يمكن القول إنها لا تنقض، وهي أن العقل لا يمكن أن يكون فاعلاً بغياب الحرية، فالعقل أداة النقد وأداة الخلق، والحرية هي الشرط اللازم والضروري لإظهار النقد أو الخلق والدفاع عنهما.  

في مجتمعاتنا، ومنذ زمن طويل، وربما يمتد لقرون طويلة، تمت تنحية العقل ونبذه، وكان الشغل الشاغل للسلطات المتعاقبة يتلخص بالسعي للاستحواذ عليه، وتسخيره لمصلحتها وللدفاع عنها ولتبرير ما تفعله في البلاد والعباد، وهكذا تكرّس عقل التبرير، وغاب عقل التفكير، وإن كانت السلطات تشتغل في البداية على تعطيل عقل النخب أو تسخيره لها، فإنّها تريد لاحقا، وبمرور الزمن أن تعتقل العقل الجماعي وتدجّنه وتنمّطه فيصبح عاجزاً أولاً، ثم يتحول ليصبح أداة قمع تسخرها لمحاربة من يحاول تحرير عقله ثانياً.

إذا كانت الثورة في أحد أهم وجوهها تتلخص في محاولة استعادة حق مسلوب، أو حرية مسلوبة أو منتهكة، فإنّها في وجهها اللصيق للحق وللحرية تسعى لتحرير العقل، فلا معنى للحرية خارج العقل الحر المسؤول، ولا معنى للعقل خارج الحرية المسؤولة، والثورة التي لا تنجح في نقل العقل والحرية إلى حيزهما الطبيعي، تنتهي باستبدال استبداد باستبداد آخر، وتعيد التاريخ بصورته المهزلة.

لم يستطع السوريون حتى اللحظة أن يؤسسوا لفعل حقيقي، يُمكن البناء عليه لصياغة جديدة للاجتماع السوري، ولا تزال صناعة الوهم إحدى أهم الوسائل المتداولة في علاقاتهم

دفعني لكتابة كل هذا ما أقرأه وأسمعه في حوارات السوريين اليوم، وما يبعث على الاستغراب هو بقاء مرتكزات الحوار، والعقل والحرية تكاد تطابق في جوهرها تلك المرتكزات التي ثار السوريون ضدها، فمعظم الحوارات لا تتيح لك أن تطلق عقلك حراً ليقول ما يشاء، والنزعة القاتلة لقولبة الآراء وتصنيفها ضمن عصبيات جديدة، أو مستحدثة أو حتى قديمة لا تزال ثاوية في جوهر هذه الحوارات، لكأنّنا لم نفعل شيئاً سوى أننا استبدلنا عصبياتنا بتسميات جديدة، ولم نتلمس خلال سنوات طويلة مدى حاجتنا لإطلاق حوار يحترم التباين والاختلاف، ويراه شرطاً ضروريا لنجاح الثورة.

لم يستطع السوريون حتى اللحظة أن يؤسسوا لفعل حقيقي، يُمكن البناء عليه لصياغة جديدة للاجتماع السوري، ولا تزال صناعة الوهم إحدى أهم الوسائل المتداولة في علاقاتهم على اختلاف تصنيفاتهم الدينية، أو السياسية، أو القومية أو..أو.. ولأن الوهم في جوهره هو اعتقاد راسخ يولده اضطراب عام في التفكير، ويصبح- أي الوهم - كما لو أنه مقدس، لا يمكن المسّ به حتى لو كان هناك آخرون كثر يعتقدون بخلافه، وحتى لو برزت أدلة كثيرة دامغة تثبت عدم صحته، فإن صناعته تصبح الوسيلة الأهم للسياسيين، والمثقفين، والمفكرين ورجال الدين الفاشلين الذين عجزوا أن يقدموا أي منجز لمجتمعاتهم.

إذا كانت النظم السائدة في القرون الوسطى تسحق أصحاب العقل الحر المفكر بتكفيرهم، واتهامهم بالزندقة، كي تحمي طبيعتها الشمولية أو "المقدسة"، معتبرة كل اجتهاد فكري أو إبداعي بدعة وضلالة، فإن أهم ما أنتجته النظم الديمقراطية إنّما يكمن في إطلاقها لحرية العقل وحمايته من سطوة المقدس أو الطغيان على اختلاف أنواعه، ولهذا لا يمكن لأي ادّعاء بالديمقراطية، أو الحداثة أن يقبل بتحديد وتأطير التفكير في زمن العلم والتقدم، ولا يمكن بأي حال تبرير إسكات المختلف وإرهابه، ولعل المجتمع السوري هو بأمس الحاجة إلى احترام الأسس المعرفية التي تنفتح على المختلف، وترعاه وتتفاعل معه وبه، وصولاً إلى دستور خلّاق يفتح المجال واسعاً لصياغة جديدة للقيم الاجتماعية والثقافية.

إذا كان النقد أهم وسائل التطور، وأهم مرتكزات الديمقراطية والدولة الحديثة، والأهم أنه ابن شرعي لعقل الفرد الحر فإنه من البدهي القول إنه لا أحد فوق النقد، وإن زمن عبادة الفرد، أو تقديسه قد انتهى، وبالتالي فإن اتهام النقد ومحاولة تكفيره هو استبداد لا يمكن قبوله، هذا لا يبرر أبدا أن يكون النقد متهافتا، وغير مسؤول، وأيضا هذا لا يبرر بالمقابل أن نصف أي نقد بالتهافت بحجة الموت، أو بحجة التاريخ النضالي أو بأي حجة أخرى، فمن يعمل بالشأن العام، وتنعكس نتائج أعماله على العام، يحق لأي كان انتقاده.

هناك ركيزة أساسية يرتكز عليها من يحاولون اعتقال العقل الجماعي، هي غياب العقل الحر الذي يمكنه أن يظل متماسكاً عند محاكمته لما يجري

في تغيّيب النقد تغييب للعقل، وفي تغيّيب النقد تصنيع للوهم، ولاعتقال العقل وتأطيره وتنميطه يلجأ المستبدون إلى ثلاثة طرق رئيسية، هي التوكيد، والتكرار، والعدوى، ففي التوكيد إرهاب للمختلف، كأنّ يؤكّد عدد كبير على رواية خاطئة، عندها يصبح مالك الرواية الحقيقية محاصراً بالتوكيد، أو أن تكرر حادثة غير صحيحة بشكل دائم، فيصبح نفيها صعباً، أو أن تزرع فكرة في أوساط متعددة، وتأخذ بالانتشار داخلها لتستحيل بعد فترة من الزمن إلى ما يشبه العدوى، التي يصعب تفنيدها أو دحضها.

في كل الطرق المذكورة سابقاً، هناك ركيزة أساسية يرتكز عليها من يحاولون اعتقال العقل الجماعي، هي غياب العقل الحر الذي يمكنه أن يظل متماسكاً عند محاكمته لما يجري، لكننا حتى لو افترضنا وجود العقل الحر، المفكر القادر على محاكمة ما يجري، فإنّه لن يكون قادراً على الفعل ما لم يكن شجاعاً، إذ لا فائدة من فكرة صحيحة تظل حبيسة رأس مبدعها.

قل رأيك حتى لو كنت وحيداً، والثورة التي تمنع أحداً من قول رأيه ليست ثورة، والجموع التي تسيرها أفكار الوهم لن تصنع إلا الطغيان، والتاريخ يخبرنا كثيراً أن من تركوا لنا إرثاً حضارياً وساهموا برقي البشرية، هم أولئك الذين لم يقبلوا أن تكون عقولهم رهن الاعتقال.