icon
التغطية الحية

إندبندنت: كيف سمم النفط الشمال السوري؟

2021.11.09 | 14:55 دمشق

عامل سوري في مصفاة نفط مؤقتة وهو يقف فوق نفايات نفطية
عامل سوري في مصفاة نفط مؤقتة وهو يقف فوق نفايات نفطية
إندبندنت - ترجمة وتحرير ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

أقيمت جنازتان جنباً إلى جنب عصر أحد الأيام على ضفاف نهر زلق وأسود يعلوه النفط لِتذكّرَ كلٌّ منهما إيّانا بأثر التلوث القاتل الذي يفتك بشمال شرقي سوريا.

إذ بسبب الدوار الذي أصابهم نتيجة للأبخرة الخانقة، تمدّد المعزون في خيمتين أقيمتا في قرية خراب أبو غالب التي كانت تنعم بمراع خضراء في السابق، شأنها شأن كثيرٍ من المناطق في هذه البلاد، لكنها الآن أصبحت ملطخة بلون بني أقربَ للسواد بسبب تسرب النفط.

إن هذا المجرى المائي الذي دُمّر بسبب تسرّب نفطي أتى من مستودع كبير قريب وقع خلال العام الماضي هو الشيء الذي يحمّله الأهالي مسؤولية ارتفاع نسبة الوفيات في المنطقة، كما تُسمع أصداء تلك الشكوى في القرى الواقعة في الشمال السوري التي تعرضت لنسب عالية من التلوث.

ففي غضون أربعة أيام قبل أن نزور المنطقة، توفي رجل طاعن في السن إلى جانب امرأة في منتصف العمر بعد معاناتهما من مشكلات في التنفس، ومشكلات في الصدر وفشل كلوي. وذكر لنا أيمن، وهو ابن أخ لأحد هذين المتوفين، بأن عشرة أشخاص من القرية ذاتها فارقوا الحياة خلال السنة الماضية، إذ يعدّ ذلك العدد مرتفعاً بصورة غير مسبوقة. كما نفقت المواشي أيضاً، وأصبحت الأراضي الزراعية جرداء قاحلة.

DSC03270_0.jpg

تقع هذه البلدة بالقرب من حقل الرميلان النفطي وتفصلها عشرة كيلومترات عن جير زيرو، أي مستودع النفط الرئيسي في شمال شرقي سوريا الذي يقع ضمن منطقة تسيطر عليها "الإدارة الكردية". وتعدّ هذه البلدة واحدة من بلدات كثيرة تعرضت للتلوث المدمر بسبب صناعة النفط التي تعدّ المورد الرئيسي الذي يُبقي هذا البلد الذي دمره القتال واقفاً على قدميه، بَيد أن هذا المورد هو الذي يغتال البلاد في الوقت ذاته.

أسباب تفاقم المشكلة

في شمال شرقي سوريا، قام المقاتلون والطائرات الحربية باجتياح أو استهداف المرافق النفطية عمداً، ما أدى إلى تدمير صهاريج التخزين وأنابيب النفط والآلات المستخدمة لاستخراجه.

وعندما سيطر تنظيم الدولة على معظم أرجاء هذه المنطقة في عام 2014، قام مقاتلوه بتجميع ما دُمّر حتى يقوموا باستخراج النفط وتمويل "دولة الخلافة"، ولهذا تم استهداف الحقول والمصافي النفطية على حد سواء خلال الحرب التي شنها التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لدحر تلك الجماعة الجهادية.

أدى النزاع إلى انخفاض إنتاج النفط الذي بلغ قبل الحرب نحو 400 ألف برميل يومياً، في حين هبط اليوم إلى 20 - 30 ألف برميل بحسب تقديرات خبراء في مجال صناعة النفط.

ثم إن الأزمة الاقتصادية التي لا ترحم، واستمرار الاقتتال في هذه المنطقة، مع انعدام الاستثمارات فيها (بسبب التخوف من العقوبات المفروضة على سوريا) أدت كلّها إلى ضعف عمليات إعادة الإعمار أو الصيانة بالنسبة لبعض المرافق التي ما تزال تعمل، الأمر الذي تسبب بتسرب نفطي لا بد منه إلى جانب شيوع ظاهرة رمي النفايات النفطية بشكل كبير.

كما أدى تدمير مصافي النفط الرسمية وخط الأنابيب الذي يصل إلى المصفاة الرئيسية في حمص إلى ظهور الآلاف من المصافي المؤقتة التي أخذت تبصق نفاياتها على الأرض، وهذه النفايات تحتوي على معادن ثقيلة معروفة بأنها تسبب السرطان لدى البشر، وعلى رأسها الزئبق والرصاص والزرنيخ.

أما الغازات التي تشمل ثنائي أكسيد الكبريت وأكسيد النتروجين التي تنتج عن عملية إنتاج النفط وتكريره فيجري حرقها أو إطلاقها في الجو.

ومما زاد الوضع سوءاً هو الجفاف غير المسبوق الذي ضرب سوريا خلال هذه السنة، ما أدى إلى نقص حاد في المياه اللازمة لتخفيف حدة التلوث في النهر وجرف الملوثات مع مجرى الماء.

 

 

وحول ذلك يحدثنا ويم زويجنينبيرغ من منظمة باكس الهولندية للسلام، والذي كتب تقريراً في شهر تموز الماضي يحذر فيه من الأثر التراكمي للتلوث النفطي على شمال شرقي سوريا، فيقول: "تعدّ صناعة النفط قوة دافعة للبيئة وقاتلة لها في الوقت ذاته، نظراً لتلوث الهواء والتربة... بيد أن الوضع صار أعقد مع وصول الجائحة خلال سنة جفاف لم يسبق لها مثيل، كما أن التسرب النفطي يجعل أمر الحصول على مياه نظيفة لمحاربة الفيروس أصعب بكثير بالنسبة للبلدات الواقعة على مصب تلك المرافق النفطية".

 

بدايات المشكلة 

يخبرنا الأهالي عن الجهود التي بذلت قبل الحرب لمعالجة مشكلة التلوث النفطي الذي ضرب هذه المنطقة منذ أمد بعيد، إلا أن الاقتتال بين عناصر النظام والثوار خلال السنوات الأولى للحرب ثم سيطرة تنظيم الدولة على المنطقة في عام 2014 قد نتج عنه تدمير للمضخات المتخصصة بمعالجة النفايات النفطية.

 

وهكذا تسبب تلوث التربة والماء والهواء مجتمعين بخسارة مواسم حصاد كاملة وحقول زراعية برمتها، فقد اغتال التلوث مياه الأنهار وسمم الهواء، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الإصابة بمرض السرطان والأمراض الصدرية وفشل الأعضاء الداخلية بحسب ما ذكره الأهالي.

آثار التلوث على المنطقة 

حول ذلك يخبرنا محمد حسين، 67 عاماً، الذي يعيش هو وعائلته في بلدة خراب أبو غالب، فيقول: "باتت نساؤنا يقلقن من ارتفاع نسبة التشوهات الخلقية بين صفوف الأطفال، كما صار الناس يعانون من مشكلات صدرية، فهنالك أربعة أشخاص من هذا الحي أصيبوا بالسرطان فاضطروا إلى السفر إلى دمشق نظراً لعدم وجود وحدة لمعالجة الأورام في هذه المنطقة.... لم يعد لدينا جهاز مناعي يقاوم أي نوع من الأمراض، وليس فقط فيروس كورونا، إذ حتى المياه الجوفية أصبحت سامة اليوم".

محمد حسين وهو يتحدث عن المواشي التي نفقت والأراضي التي تدمرت بسبب التلوث النفطي

أخبرنا هذا الرجل بأن التلوث تسبب بتدمير أرزاق الناس بما أن معظمهم يعملون في تربية المواشي والزراعة.

إذ حاول ابن عم محمد، واسمه محمود ناصر، 70 عاماً، أن يغسل عشرة خرفان من قطيعه في النهر، بما أنها كانت تعاني من مرض جلدي، وذلك قبل بضعة أشهر، فنفقت جميعها بعيد ساعات من تعرضها لذلك الماء، وعن ذلك يخبرنا هذا الراعي العجوز فيقول: "كان سعر الخروف يعادل ألف دولار، أي أن ما خسرته يعادل عمل عام كامل، لقد خسرت كل شيء".

تفشي حالات السرطان وانتشار الأورام 

ذكر أطباء الأورام السوريون من أبناء تلك المنطقة  أن التلوث هناك يتسبب في إضعاف جهاز المناعة في خضم الجائحة، وفي بلد لا يحتوي على مشافٍ مخصصة للسرطان، ومحروم من إدخال المساعدات الأممية بشكل رسمي والتي تحمل معها الإمدادات الطبية.

 

ويخبرنا الطبيب دانيش إبراهيم بأنه كان ثاني طبيب أورام في شمال شرقي سوريا خلال عام 2017، ولكن أصبح في تلك المنطقة اليوم أربعة أطباء أورام، وجميعهم يعالجون آلاف حالات السرطان، وحول ذلك يقول: "وجدنا أن هنالك علاقة تلازم بين مصافي النفط والنفايات النفطية المرمية في الأنهار، وعوادم السيارات، وارتفاع حالات الإصابة بمرض السرطان التي تتركز في المناطق المحيطة بالحقول النفطية، كما تلعب تلك الأمور دوراً كبيراً في إضعاف جهاز المناعة، لذا فإن ما يقلقنا هو أن يصبح مزيد من الناس عرضة للإصابة بفيروس كورونا".

الموت جوعاً أو بالسرطان... لا فرق!

عندما بلغت هذه الصناعة المحلية ذروتها في الوقت الذي سيطر فيه تنظيم الدولة على المنطقة بين عامي 2013-2017، انتشر ما يقارب من 30 ألف حرّاق ومصفاة على قارعة الطريق في الشمال السوري، بقي يعمل منها حتى اليوم نحو 300 مصفاة في تلك الزاوية من البلاد، لتقدم منتجات تستخدم محلياً، كما يتم إرسالها إلى مناطق سيطرة النظام وتلك التي تسيطر عليها فصائل المعارضة.

وبالإضافة إلى المواد السامة، يتعرض العمال إلى عدد كبير من المخاطر المميتة، ومنها انفجار براميل النفط، إذ ذكر عمال في مصفاة قريبة من مدينة القامشلي بأن كثيرين منهم يعانون أيضاً من أمراض تنفسية خطيرة، ولكن ليس لديهم أي خيار آخر، إذ يقول أحمد، 40 عاماً، وهو أب لأربعة أطفال، وهو يقف بالقرب من كومة نفايات نفطية وهي تحترق، فظهرت بلون فضي في الأسفل يشبه لون الزئبق المكثف: "إن الجوع يرعبنا أكثر من السرطان".

ثم يخبرنا بأن القحط والتلوث والانهيار الاقتصادي جعلا فكرة الاعتماد على الزراعة أمراً مستحيلاً، ولهذا غدا العمل لدى مصفاة نفطية السبيل الوحيد للعيش. ويكسب فريق يضم عشرة عاملين ما بين 6.50 دولارات و11.90 دولاراً باليوم تبعاً للدور الذي يقوم به كل منهم، وذلك مبلغ جيد في منطقة تضاعفت فيها أسعار الخبز لأكثر من ضعفين خلال السنة الماضية.

 

عامل في مصفاة نفط مؤقتة يخاطر بحياته ليكسب حفنة من الدولارات في اليوم

يخبرنا صاحب تلك المصفاة الذي يدير أربعاً غيرها في المنطقة أن عائلته بدأت ذلك العمل التجاري في عام 2012، أي في العام الثاني من الحرب السورية وذلك عندما دمّرت المعارك التي قامت بين قوات النظام والثوار المصافي الرسمية وأنابيب النفط الرئيسية.

النزاع يطيل أمد مشكلة التلوث

ترى منظمات حقوقية تقوم بمراقبة الأزمة أن المستقبل سيكون مظلماً أكثر مع عدم وجود أيّ حلّ للنزاع في سوريا.

 أما زويجنينبيرغ فيرى بأن كثيراً من الدول لن تخاطر بإرسال الأموال إلى الشمال السوري لإصلاح البنية التحتية النفطية مع استمرار حالة عدم الاستقرار على المستوى السياسي، والتلويح بالعقوبات الأميركية المفروضة على النظام في سوريا، في حين يدّعي بشار الأسد ونظامه بأن الحقول النفطية تعود له، حتى مع سيطرة الكرد بشكل فعلي عليها.

ولهذا فشلت محاولة لمعالجة النفط المحلي في شمال شرقي سوريا على يد شركة غربية خلال السنة الماضية حتى قبل أن تبدأ بشكل جيد. فقد حصلت شركة Delta Crescent Energyالتي أسسها ثلاثة مواطنين أميركيين بينهم السفير السابق إلى الدنمارك على إعفاء من العقوبات الأميركية من قبل الرئيس السابق دونالد ترامب في شهر آذار من العام الفائت، بيد أن الرئيس بايدن لم يقم بتجديد ذلك الإعفاء في هذا العام، ما أدى إلى طيّ صفحة ذلك المشروع على ما يبدو.

كما أن التلويح بعملية عسكرية تركية في الشمال السوري يزيد من الضغوط على تلك المنطقة، وذلك لأن تركيا تعتبر القوات الكردية في هذه المنطقة تابعة لحزب العمال الكردستاني الذي صنفته كل من تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على أنه منظمة إرهابية. يذكر أن أنقرة شنت عدداً من العمليات عبر الحدود ضد المناطق الكردية في سوريا خلال السنوات الماضية، فسيطرت بذلك على بضع مدن حدودية.

 

الأراضي الزراعية بعد تحولها إلى أراض قاحلة

الحل بالحل السياسي

 يرى زويجنينبيرغ بأن السبيل الوحيد لمعالجة التلوث المستشري وما يرتبط به من مشكلات اجتماعية واقتصادية يكمن في توصل الأطراف إلى حل سياسي يحمل معه الاستقرار ويفتح تلك المنطقة أمام استثمارات طويلة الأمد، إذ من دون ذلك، لن يكون المستقبل المنظور سعيداً، وسيغدو من المستحيل جعل هذه المنطقة صالحة للعيش من جديد.

يرى أهالي بلدة خراب أبو غالب اليوم بأنهم يجب أن يعيشوا في كنف التلوث بما أنه ليس لديهم أي خيار آخر، إذ يقول محمد: "يسألنا الناس لم لا ترحلون؟ ولكن إلى أين بوسعنا أن نرحل؟ إن كل القرى الواقعة على هذا النهر تعاني من المشكلة ذاتها... كانت هذه المنطقة خضراء مملوءة بالقمح فيما مضى" ثم يسكت هنيهة ليتابع: "أمّا الآن فقد تحوّلت إلى جحيم".

     المصدر: إندبندنت