أن نتحرر من الضابط الإسرائيلي والديكتاتور العربي

2020.02.08 | 23:03 دمشق

1202028193135274.jpg
+A
حجم الخط
-A

إذا امتهن واحدنا السرقة، لا يحق له ذمّ اللصوصية وإدانتها. وإذا ارتكب واحدنا جريمة قتل، ما عاد له الحق بشجب المجرمين. بمعنى أن اللص والقاتل لا يسعهما إخراج أنفسهما من جنايتهما، أو التملص من تبعات ما اقترفاه. فالانتساب إلى العالم السوي والاستقامة الأخلاقية واكتساب حق الإدانة والشجب.. وطلب المعاقبة، يحتم مسؤوليات بديهية في مواءمة الضمير والسلوك على وجهة واحدة. فالقانون الذي تشهره على غيرك تطبقه على نفسك.

ونسمع اليوم ضجيجاً وصخباً عربياً، رياء في معظمه، وخداعاً في أغلبه، عن "صفقة القرن" التي تبتغي تصفية قضية الشعب الفلسطيني وسلبه حقوقه الوطنية والتاريخية. وهذا الهيجان العربي - استنكاراً وإدانة – يشبه تنطح اللص إلى محاضرة في الفضيلة، وتطوع القاتل للبكاء على القتلى.

ويتداعى العرب على نحو فلكلوري واستعراضي إلى مؤتمرات واجتماعات تلهج بالحسرة على فلسطين، وتمثل دور الغاضب على المس بحقوق الشعب الفلسطيني. وهم في رأيهم وقولهم وموقفهم محقون وصائبون وينحازون إلى العدالة والحق من غير شك. لكن المعضلة، ليست فقط أن فاقد الشيء لا يعطيه، بل أن سارق الشيء لا يمنحه. فهذه الأنظمة العربية إذ اقترفت ما يشابه أو يماثل ما اقترفته إسرائيل، خسرت تلقائياً الحق الأخلاقي والسياسي في الجلوس بموقع الضحية أو محاكمة الآخرين.

فإذا أخذنا قاتل الأطفال السوريين بشار الأسد مثلاً، لا يحق له إطلاقاً المطالبة

في اللحظة التي يقوم جيش الأسد بتهجير نصف مليون إنسان من إدلب، يصبح أي كلام أسدي أو عربي عن "اللاجئين" الفلسطينيين و"حق العودة" فجوراً سياسياً وقذارة أخلاقية

بحماية الأطفال الفلسطينيين من بطش الجيش الإسرائيلي. فهذا ليس نقضاً لمبدأ شمولية القانون وحسب، إنما عبث يهدد صواب مطلب حماية الأطفال الفلسطينيين. بل إن ما اقترفه بحق الأطفال السوريين يتيح للإسرائيليين استسهال الاعتداء على الأطفال الفلسطينيين. إنه شريك في الاستباحة.

وفي اللحظة التي يقوم جيش الأسد بتهجير نصف مليون إنسان من إدلب، يصبح أي كلام أسدي أو عربي عن "اللاجئين" الفلسطينيين و"حق العودة" فجوراً سياسياً وقذارة أخلاقية.

في اللحظة التي تقوم بها ميليشيات "شرعية" عراقية بقتل المتظاهرين العزل في شوارع النجف وبغداد، تفقد الحكومة العراقية الحق بأي كلام عن القمع الإسرائيلي. فقاتل المدنيين هنا لا يمكنه لعب دور حامي المدنيين هناك.

إيران الحروب المذهبية في كل المشرق العربي، يستحيل عليها الادعاء بأي حق في القدس الإسلامية المسيحية اليهودية. فهي خطر كما إسرائيل على هوية المدينة المقدسة. إيران التي تلطَّخ حرسها الثوري بدماء السوريين واللبنانيين والعراقيين والفلسطينيين، يصبح تفشيها في المشرق العربي مشابهاً للوصف الذي تطلقه على إسرائيل: ورم سرطاني مميت.

ما تقترفه السعودية والإمارات وإيران في اليمن ليس أخف وطأة من احتلال إسرائيلي شرس، يهدم الوجود الفلسطيني. الحرب اليمنية والانغماس فيها، يسهل كثيراً على إسرائيل التفلت من جرائمها، طالما أن تلك الدول لا يسعها تعيير الآخرين بما هي مبتلية فيه.

وعلى هذا المنوال، ما يتهدد القضية الفلسطينية أنَّ حامليها فاقدون حقوقياً وسياسياً وأخلاقياً حق تعيين العدالة أو المطالبة بها. خاسرون صلاحية تحديد "الحق". ولهذا السبب بالضبط، خسر الفلسطينيون كثيراً.

يروي أحد شبان "انتفاضة الحجارة" في أواخر الثمانينيات، أن الحاكم العسكري الإسرائيلي وقف أمام الشبان الفلسطينيين المعتقلين، قائلاً لهم متسائلاً: أتفضلون نظاماً ارتكب مجزرة حماة؟ أتفضلون دولة فاشلة بحروبها الأهلية والطائفية ذبحتكم في صبرا وشاتيلا؟ أتفضلون نظاماً رشّ الغاز الكيماوي في حلبجة؟ أتفضلون نظاماً يرمي كل معارض من الطائرة في الصحراء؟ أتريدون دولة يحكمها مجنون كالقذافي؟ هل تريدون العيش في بلدان الفقر والفوضى والجهل والقمع؟

بالطبع، هذا الضابط الإسرائيلي، ليس بوارد أن يفكر بالخيار الحقيقي للشعب الفلسطيني بالحرية والاستقلال والكرامة وحق تقرير المصير. ليس بوارد أن يعترف بعنصريته وبوصفه محتلاً استعمارياً ظالماً. لكنه، كان يستنجد بالكوارث العربية كي يخبئ جريمته، كي يجعلها أقل سوءاً أو كأنها "ألطف" إنسانياً.

والمفارقة هنا، أن الأنظمة العربية تلعب أيضاً لعبة الضابط الإسرائيلي، معكوسة وعلى نحو أكثر ابتذالاً ووقاحة. فهي باسم فلسطين والفلسطينيين، تجعل من نفسها "ضرورة" وقدراً كما الاحتلال، طالما أنها تعمل من أجل "تحرير" فلسطين

ما يجعل إسرائيل "منيعة" أو صاحبة حجة حقوقية وسياسية، أنها تخاطب العالم بالقول: إن تسليم مصير اليهود وفلسطين التاريخية لهؤلاء العرب لن يؤدي إلا لمشهد مماثل لما حدث في حلب وداريا وإدلب وحمص والموصل وبغداد وصنعاء وعدن وطرابلس الغرب

ومواجهة إسرائيل. هي تقترف ما تقترفه بوصفه اضطراراً أو شرطاً لشق طريق القدس. وأبعد من ذلك، الأنظمة العربية تشيع في وعي شعوبها خياراً بين سوء الذل والقمع "الوطني" أو سوء الذل والقمع الاحتلالي الأجنبي.

لا ضابط الاحتلال ولا أنظمة الإجرام على استعداد للقبول بما يتجاوزهما، بما هو الحق الأصلي للفلسطينيين وللعرب جميعهم، خيار الحرية والاستقلال والعدالة والكرامة. خيار رفض البقاء ضحايا.

ما يجعل إسرائيل "منيعة" أو صاحبة حجة حقوقية وسياسية، أنها تخاطب العالم بالقول: إن تسليم مصير اليهود وفلسطين التاريخية لهؤلاء العرب لن يؤدي إلا لمشهد مماثل لما حدث في حلب وداريا وإدلب وحمص والموصل وبغداد وصنعاء وعدن وطرابلس الغرب.. إلخ. وهذا السيناريو الذي يتقن الإسرائيليون تسويقه إيديولوجياً، بخطاب مفعم بالعقلية الاستعمارية: "التمدن بوجه البربرية"، يسمح لهم باستباحة الحقوق الفلسطينية والدوس عليها، من غير تأنيب ضمير ولا خوف من محاسبة أو معاقبة.

هنا قوة مطلب التحرر، الذي يرفعه الآن الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال وضد قياداته الفاسدة في آن معاً، ورفعه الجزائريون والسودانيون والتونسيون والمصريون والسوريون والعراقيون واللبنانيون والليبيون.. التحرر الذي ينهي الاستبداد والاحتلال، يلغي الجريمة والاستغلال، يلغي الفساد والاستعمار. إنه المطلب الذي يقف بوجهه "الحلف الموضوعي" بين الأنظمة وإسرائيل.