أن تكون سورياً مدة نصف قرن من رعي الأغنام إلى "السوشيال ميديا"

2021.09.11 | 06:11 دمشق

maxresdefault.jpg
+A
حجم الخط
-A

أتذكرُ جيداً، حين كنتُ ألقي بجسدي النحيل، على الأرض، عند حافة الساقية، كي أكرع الماء، ما بعد منتصف السبعينات من القرن الماضي، أنشغل وأنا أكرعُه (كلمة فصحى مستعملة فراتياً وتعني: مَدَّ عُنُقَهُ وَتَنَاوَلَ الْمَاءَ بِفَمِهِ مِنْ مَوْضِعِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْرَبَهُ بِكَفَّيْهِ أَوْ بِإِنَاءٍ) وتلاعبُ عيناي الشراغيف، وقد كنا نسمّيها "البلاعيط"، كنتُ أُطيلُ فترة الشرب، كي أحكي معها، أراقبُ انعكاس وجهي في مرآة الماء، أهزّه كي تبتعد عن جُغمات الماء.

يُنْسِيْنِي شغفي الطفولي، أنَّ مهمتي الرئيسية آنئذ هي رعايةُ الأغنام، أنشغلُ عنها باللعب مع طيور تبحث عن أرزاقها، وسط حقول القطن، أو القمح، فجأة تأتي: فراشة، جرادة، طائر.. فأحاول الإمساك بها، أو مطاردتها، نشأتْ علاقةُ مودّة بيني وبين طائر يُسمَّى "مُلَهِّي الرعيان" لأنني كلما اعتقدت أنني سأمسك به يهرب مني، نحو مسافة قريبة، فأركض نحوه ثانية، ربما قدرته على الطيران قصيرة، لذلك لا يستطيع أن يبتعد مسافات طويلة، أما تسميتُه الفراتية فتركز على الدلالة والأثر. في الوقت الذي أركض فيه خلف "ملهّي الرعيان" تكون الأغنام قد اغتنمت الفرصة، وابتعدتْ عن حوافّ الحقول أو السواقي، ودخلتْ في حقل زراعي لأحد الجيران، لتبدأ في التهامه بنهم بعد حرمان ومنع، والنتيجة تقودُ إلى أحد احتماليْن: إما أنْ لا يراها أحد، وتنتهي الحادثة هنا، وتُسَجَّل ضد مجهول، أو أنْ يرى ما حدثَ أحدُ الفلاحين الفضوليّين، أو صاحبُ الحقل نفسه، مما يعني أن عقوبة كبيرة منه، ومن أهلي بانتظاري.

الأغنام لا تهتم بالعقاب الذي ينتظرني، وهي سعيدة بشغفي الطفولي، لأنها تكون قد ملأتْ بطونها بسرعة، وارتاحت من مشكلة الجوع، وليست مضطرة لاستهلاك وقت أطول من أجل البحث عن حشائش حتى تصل إلى مرحلة الشبع، إذ تستطيع أن تستعمل ما تبقى من وقتها المخصص للرعي في الاجترار، أو المناطحة، أو الراحة، أو اختيار أعشابٍ بعينها مما تحبُّه، أو تألف رائحته.

لا تغيبُ تلك اللحظات من العمر عن مخيّلتي، تجذبني إليها، أشتاقها كطوق نجاة، تغدو أحياناً ملاذاً آمناً للفرح، خلال نصف قرن شاقّ، عاشه كثير من أبناء جيلي، وعايشوا خلاله تحولات سياسية واجتماعية وفكرية ودينية: سورية وعالمية، بالنسبة إلي شخصياً، كانت أقسى لحظاتها: تجربة اللجوء التي لا تنتهي مراراتها حتى هذه اللحظة!

أعودُ إلى لحظات الطفولة تلك، كما كانت تعود أغنامي آنئذ إلى ما ابتلعتْه بسرعة، لأجترّ تفاصيلها، بعد أنْ سرقتني الحياة، تلك الزوّادة الطفولية، تُنْقِذُني مرات من ضغوطات فرضتْها حياة مؤجلة أو غير متوقعة، أركضُ نحو تلك اللحظات، فيما يشبه الاعتذار، عن أنني سمحتُ لسنوات عمري أن تنزلق بعيداً عنها، دون أن تغادرها. ربما أعودُ إليها في رغبة مبطنة للعودة إلى حياة فيها من الفطرة ما فيها، أو قلة الالتزامات الإكراهية، أو التخفّف من ضغوطات الفقد، والبناء من جديد في مجتمعات تتحدث لغة حياة أخرى!

لا أرتاح كثيراً لاستعمال كلمة "قطيع" لتوصيف الأغنام، في إطار تنفيري، للإشارة إلى التابعية، وعدم التفكر، وعدم القدرة على اتخاذ القرار

أذكر، بحنينٍ شديد، مشهد شرب الأغنام الماءَ من الساقية، بعد وجبة من الحشائش الطازجة، وبعد أن تنهي شربها، تهزّ رؤوسها، نافضة قطرات الماء عن أعناقها، كأنها تقدم الشكر لي، الذي كنت ألحظُه في عينيها، وإيقاع مشيها، أقرأُ في حالة الأغنام تلك، ألواناً من الرضا والتصالح مع الذات! من قال: إنَّ اجترار تلك اللحظات الطفولية ليس بشيء إيجابي، كيف نقوى على مجابهة الحياة، دون لحظات طفولية مخزنة في الذاكرة؟ كيف يمكن أن نستمر بمعاندة ما نمر به، وقد قذفت الحياة بنا إلى مجتمعات، معظم وقتِها مخصصٌ للإنتاج، لا تعتني بكثير من تفاصيلك، إلا بطريقتها، وتصبح قيمتُك أنت الآخر بما تقدمه من منتج، وليس بما تحمله من فكر، أو مررتَ به من تجارب، أو منجزك الشخصي، حتى في أنظار أقرب الناس إليك، بل قد تتمُّ محاكمتك على ماضيك بعيون حاضرة، لا تعرف شيئاً عنه أو عن وجدانك، أو تشكلك، ولا تقيم له وزناً، تستعمل لغتها في تقييمك وتزلزلك وجودياً؟

ولأنني امتهنتُ مهنة الرعي في طفولتي ومراهقتي في فترات الصيف وبعد العودة من المدرسة، فإنني لا أرتاح كثيراً لاستعمال كلمة "قطيع" لتوصيف الأغنام، في إطار تنفيري، للإشارة إلى التابعية، وعدم التفكر، وعدم القدرة على اتخاذ القرار، يمرّ الإنسان في لحظات عديدة من عمره بـ "القطيعية" مع أن الأغنام ليست حالة من القطيعية، بل لكل نعجة لونُها، وسلوكها، وشكلها، وذكريات معها، طريقة ولادتها، وتعاملها مع خرافها مختلفة أيضاً، شبعُها، وعلاقتها مع جاراتها، وشريكاتها مختلفة كذلك، نوع صوفِها يختلف هو الآخر. لا تختار الأغنام القطيعية، بصفتها خياراً من سلة خيارات، بل لأنه ليس لديها خيار آخر، فقد يضربُها الراعي، وتجوع، وتُذبَح، فتلجأ إلى القطيعية لأنها عامل رئيس من عوامل قوتها ولُحمتها، وربما لسان حالها يقول كما قال دريد بن الصمة: ((وما أنا من غزية إنْ غزت// وإنْ ترشد غزية أرشد)).

مشهدُ البشر القاصدين "مطار كابول" واستشعار الخوف من سلطة جديدة، معها ذكريات مريرة، جعلهم يركضون نحو فضاء لا يعون تفاصيله يذكَّرنا بحالة من "القطيعية الإيجابية"، التي أسهبتْ في الحديث عنها دراسات تحدثت عن "سيكولوجيا الجماهير" أو "صناعة الرأي العام".

أراقبُ هنا في هولندا مشاهد قطيعية أحياناً، بالرغم من استعمال الإنسان أحدث التقنيات، ويعيش في دولة يسيطر الديجتال على كثير من تفاصيلها، لكن تمر حالات قطيعية من السلوك، لو تأخر قطارٌ عن موعده مثلاً، تجد الناس تركض نحو القطار اللاحق، وتقوم بكل أدوات "المدافشة"، في أسرع عودةٍ إلى الحالة القطيعية، كأن الاكتفاء والشعور بعدم الحاجة، هو ما يعيد حاجات الإنسان إلى حجمها، وما يبعد عن كثيرين ذلك التفكير القطيعي، أما إن تغيرت الظروف المحيطة بالإنسان فإنه سيعود بأقصى سرعة لحالات فطرية أو قطيعية!

"فيروس كورونا" أعاد للقطيعية مجدها وحضورها، فقد كانت مراكز التسوق من كل شيء تفرغ خلال ساعة بعد افتتاحها، خشية حظر، أو توقف وصول منتج، وصارت الناس تسرع بتصديق الشائعات، وتصديرها والإيمان بالتفكير غير العلمي في جوانب عديدة من حياتها.

كثير من البشر يعودون إلى حالة من قطيعية الانتقام، في لحظة استشعار الخطر أو عدم الشعور بالأمان أو الحروب، تلك لحظة نفسية لم يستطع العلم أن يفكك أسرارها، وكيف أن النفس تهرع إلى لحظة مخبأة في ذاكرة كل نفس بشرية، ولم يستطع تاريخ التطور البشري أن يتجاوزها، لها علاقة بالأبعاد الجينية ربما، لأننا في الأحوال العادية لا نعثر عليها.

تشكل جوانب من "السوشيال ميديا" اليوم مثالاً واضحاً على الحالات القطيعية وتقود الرأي العام في ظل عدم وجود حالة "مصدرية" أو "مرجعية" أو تثبُتيّة لما تقدمه من أخبار أو سرديات أو صور

يمكن في ضوء ذلك قراءة الأسباب التي تجعل كثيرين يلتفون حول نظام سياسي فاشل، أو رئيس مجرم أو قائد عصابة، أو طائفة أو فصيل يرأسه نصف مجنون، أو خيار فاشل كما في الحالة السورية، التي تعجّ بالأمثلة القطيعية بنوعيها: التدبريّة القارئة لوقائع ومعطيات، كما في خروج الأهالي إبان اجتياح النظام لمناطق مأهولة، وكذلك تلك القطيعية، المرتبطة بالهلع أو الخوف أو التعصب أو التابعية مما يجعل ردة الفعل أعنف من الحدث.

تشكل جوانب من "السوشيال ميديا" اليوم مثالاً واضحاً على الحالات القطيعية وتقود الرأي العام في ظل عدم وجود حالة "مصدرية" أو "مرجعية" أو تثبُتيّة لما تقدمه من أخبار أو سرديات أو صور. ويتشارك الجمهور في إنتاج القطيعية وتلقيها، بعد أن كانت تتولاها أحزابٌ وإيديولوجيات وجهات استخبارية، كانت تقضي كثيرا من وقتها كي تؤثِّر في الجماهير، ولا يعني غياب الأدوات التقليدية في صناعة الرأي العام أنَّ الأجهزة المخابراتية قد تقاعدت عن دورها، بل غيَّرت لباسها وأدواتها فحسب، وبعد أن كان عنصرُ المخابرات يضع مسدساً على خصره، أو يركب سيارة "بيجو"، ها هو اليوم يضع ذباباً إلكترونياً يهشّ به على المواطنين ليُرْعِبَهم ويقودهم!

تغيّر كذلك مفهوم المُخبر، فبعد أن كان شخصاً يكتب التقارير للتبليغ عن حالات، يعتقد أنها تضر بأمن البلد، أو لأذية الناس، أو جمع معلومات، صار المخبرُ، اليوم، هو الموبايل الذي تضعه في جيبك، أو صفحة السوشيال ميديا، تحمل تفاصيلك وتاريخك تستعملها الدول أو الأشخاص أو الخصوم لمعاقبتك، أو إذلالك، أو تلفيق التهم لك!

يعثر البشر دائماً على أدوات ملائمة، ووسائل تعبيرية، وفقاً لظروف كل عصر، نذكر مثلاً شعر "الوقوف على الأطلال" لنتخيَّل أن امرأ القيس كان لديه "واتس أب"، الأمر بسيط سيسأل ابنة عمه عن الجهة التي رحل إليها القوم، وسترسل له "تحديد موقع" دون علم أبيها، وسيصعد على ظهر بعيره، وينطلق نحو الديار، فالأقمار الصناعية تستطيع أن ترصد طرقاً عديدة للجِمال أو الخيول، للوصول السريع إلى الجهة التي تريدها! وهذا يعني أننا كُنّا في الثقافة العربية، قد خسرنا هذا الرصيد الوجداني المتعلق بالشوق والحب والانتظار والألم الذي يحمله شعر "الوقوف على الأطلال".

من يدري، ربما سيأتي زمان ليس ببعيد، وتغدو تلك اللحظة البشرية الوجدانية والتعبيرية المرتبطة بالسويشيال ميديا وتفاصيلها تاريخاً قديماً تقف على أطلاله أجيالٌ قادمة جديدة، وتدرسه بصفته "حالة أنثربولوجية قديمة" في تاريخ البشرية، أتاحت لعدد كبير منهم أن يلتقوا على حيطانه ومدوناته، يكتبون ما يمرون به من انفعالات أو وجهات نظر، أو أوجاع أو آلام!