"أنا فقير يا ليون": مشاهدات باحث نيوزلندي في محافظة اللاذقية

2023.09.21 | 07:23 دمشق

آخر تحديث: 21.09.2023 | 07:23 دمشق

ليون غولدسميث  "دائرة الخوف"
+A
حجم الخط
-A

عندما وصل الباحث النيوزلندي ليون غولدسميث إلى محافظة اللاذقية عام 2009 ثم مرة أخرى عام 2011 لكتابة رسالة دكتوراه عن سوريا توقع أن يجد سكاناً أغنياء، ومنطقة جبلية مترفة كون المحافظة هي مسقط رأس بشار الأسد والطبقة الحاكمة في سوريا منذ أربعين سنة، لكن الواقع لم يكن كذلك أبداً. نعم، كانت هناك أقليّة ممن يملكون قصوراً وسياراتٍ فارهة لكن باقي السكان كانوا يغوصون في أوحال الفقر والحاجة، مضافاً إليهما ذلّ الولاء غير المشروط لحكم نظام الأسد، وهو ولاء - لاحظ ليون - أنه يستمدّ من الخوف أكثر من استمداده من الرعاية والامتيازات الاجتماعية.

فخلال زيارته الأولى يحكي لنا ليون عن صديقٍ له من إحدى قرى جبال اللاذقية يعمل موظفاً في مركز مدينة اللاذقية، ويسكن في حيٍّ من أفقر أحيائها، ويمضي حياته متنقلاً بين قريته البائسة في الجبل وبيته المتواضع في اللاذقية مع غيابٍ كامل لأي مظهر من مظاهر الترف أو الرفاهية. ويبدو أن حال الصديق ساءت الباحث النيوزلندي وأن حديثاً دار بينهما انتهى باعترافٍ ذليل من الصديق السوري قال فيه، "أنا فقير يا ليون". لكن هذا القروي الفقير المتنقل بين القرية الجبلية النائية والحيّ المهمل في مدينة اللاذقية أخبر ليون بوضوح أنه "مؤيّد بقوة لعائلة الأسد".

الباحث أراد اختبار ولاء هذا الفقير المتسوّل فأخرج له قبعةً اشتراها من قلعة الحصن مكتوبٌ عليها "أحبّ بشار الأسد". وهنا نسي الشابّ الفقير موضوع الحذاء وبدأ يتوسل إلى ليون كي يعطيه القبّعة كهدية، مبرراً طلبه بأنه يحبّ بشار الأسد

وفي نفس الزيارة تلك يروي لنا ليون قصة شاب من إحدى قرى اللاذقية استجداه عندما قابله وطلب منه متسولاً أن يشتري له حذاءً بدلاً عن حذائه المهترئ في قدميه. ويبدو أن الباحث أراد اختبار ولاء هذا الفقير المتسوّل فأخرج له قبعةً اشتراها من قلعة الحصن مكتوباً عليها "أحبّ بشار الأسد". وهنا نسي الشابّ الفقير موضوع الحذاء وبدأ يتوسل إلى ليون كي يعطيه القبّعة كهدية، مبرراً طلبه بأنه يحبّ بشار الأسد وأن بشار "كويّس".

وقد لاحظ ليون أن السكان في اللاذقية ومعها طرطوس يعيشون عموماً حياةً "متخلّفة اجتماعياً واقتصادياً"، ولم يسلموا حتى من الضغوطات من أجل "كبت معتقداتهم الدينية" الخاصّة حفاظاً على سلامة سلطة الأسدين الأب والابن على كامل الشعب السوري. ولاحظ ليون أن ضغوط نظام الأسد على السكان في غربي سوريا أدت إلى فقدانهم "هويتهم الدينية المتميزة التي حافظوا عليها في ظروفٍ صعبة على مرّ العصور". وفوق تلك الضغوط فقد أدت سياسات نظام الأسد القمعية بحق السوريين إلى نشوء صورة نمطية ظالمة لسكان اللاذقية وطرطوس بوصفهم "جنوداً خطرين أو رجالَ مخابرات في زوايا الطرق، أو بيروقراطيين مكروهين في دوائر الحكومة." وفوق هذه وتلك، فعندما يأتي الأمر لتحدّي النظام فلا أحد لديه الحصانة، حتى في مسقط رأس الأسد. فقد سمع ليون عن قصة شخص من اللاذقية يُدعى مصباح علاء الدين "تم القبض عليه بعد أن صوّت بلا على تجديد رئاسة بشار الأسد، ولم يُسمع عنه شيء بعد ذلك."

ترافقت إقامة ليون غولدسميث الثانية في سوريا عام 2011 مع انطلاق الثورة السورية ضد نظام الأسد والتي لم يسلم الباحث نفسه من شررها حيث تعرض للاعتقال على يد قوات الأمن في اللاذقية، وصودرت كاميرته وشرائح الذاكرة التي فيها، وهو ما أدى إلى خسارته لصورٍ ومقابلاتٍ مهمة. ولفت نظر ليون إلى أن المظاهرات انطلقت منذ الأيام الأولى من قلب محافظة اللاذقية بصورةٍ موازية لانطلاقتها في درعا وباقي المحافظات، ولم تغير حقيقة انتماء النظام للمنطقة من استعداد أبنائها للانضمام لباقي السوريين في المطالبة بالتغيير والديمقراطية.

عندما اشتدّت المظاهرة ابتعد ليون وصديقه عن مركز المدينة ولاحظ ليون انزعاج صديقه من مشهد رمي التمثال بالحجارة وشاهد الدموع تنهمر على خدّيه

في عصر يوم 25 مارس عام 2011 كان ليون موجوداً في مدينة اللاذقية عندما انطلقت أول مظاهرة هناك وشاهد كيف رمى المتظاهرون تمثال حافظ الأسد بالحجارة، وكان برفقته صديق من إحدى قرى اللاذقية. عندما اشتدّت المظاهرة ابتعد ليون وصديقه عن مركز المدينة ولاحظ ليون انزعاج صديقه من مشهد رمي التمثال بالحجارة وشاهد الدموع تنهمر على خدّيه. ومع معرفة ليون أن صديقه القرويّ فقير ولم يكن له أية استفادة من النظام السياسي الذي تحداه المتظاهرون، فقد استغرب من بكائه، وأثارت الحادثة قمة الفضول الإنساني والأكاديمي لديه، وزادته عزيمةً على إتمام رسالة الدكتوراه التي كان يشتغل عليها علّه يجد تفسيراً للمشهد الغريب الذي تراءى له.

أخيراً نجح ليون غولدسميث في وضع أطروحةٍ تعدّ من أفضل ما كتب عن التاريخ الحديث لسوريا. طُبعت الأطروحة في كتابٍ صدر عام 2015 في نيوزلندا وترجم للعربية بعنوان (دائرة الخوف) وصدر عن الدار العربية للعلوم عام 2016 وهو متوفر للتحميل مجاناً عبر الإنترنت.