أمراء الحرب والسياسة: جوع للسلطة أكثر من التوق للحرية

2023.07.25 | 06:45 دمشق

آخر تحديث: 25.07.2023 | 06:45 دمشق

مقاتلون غربي حلب
+A
حجم الخط
-A

من ثورة تطالب بالكرامة والحرية، سلمية ثم مسلحة، إلى تدخلات دولية حولتها إلى صراع مصالح، وأخيراً إلى أزمة، وعندما لم تتمكن الأطراف المتدخلة، ولم تكن لهم الإرادة في إيجاد حل يضمن الحد الأدنى من مطالب السوريين، صنفوها بأنها صراع مجمد، أي صراع بلا نهاية إلى أجل غير مسمى، يمكن خلاله تقديم المعونات الإنسانية، والاتفاق على تدابير للحد من "خطر" قضية اللجوء/ التشريد، وإطلاق البرامج على أرضية الصراع المجمد هذا. وعلى الضفة الأخرى، في الداخل وهو العامل الأهم، تشكلت في ظل تعمق معاناة السوريين التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لها فئة من المستفيدين في المجالات: العسكرية والسياسية والمدنية، فئة متميزة عن باقي السوريين وغريبة عنهم، يدها في الماء بينما يحترق السوريون بلهيب الأسد وداعميه والداعين لإعادته وتعويمه، فئة لا تريد أن تتخلى عن امتيازاتها الجديدة، مهما كانت النتائج.

بعد مرور (12) عاماً على انطلاقة الثورة، لم تعد سوريا على جدول الأعمال الدولي، كما أن البحث عن تسوية سلمية شاملة لا يزال بعيد المنال. فرغم أن الأمم المتحدة عقدت جولات عديدة من التفاوض، فإنها لم تصل إلى أي نتيجة، وكذلك جولات أستانا التي توقفت منذ فترة عند جولتها العشرين، حيث لم تسفر كل المفاوضات عن شيء سوى ترتيب مناطق النفوذ وآليات إدخال المساعدات، ومع ذلك يبدو أن تلك الأطراف غير مستعدة للتخلي عن نفوذها، بينما يعيش السوريون في ظروف بائسة بعد تحطيم آمالهم بالحرية. وباختصار، حولت تلك الأطراف قضية السوريين إلى مسألة لاجئين ومساعدات، واعتمدت على وكلاء مدنيين وعسكريين وساسة، لتأدية ما هو مطلوب وما يخدم مصالح تلك الأطراف، على حساب كارثة السوريين.

على الصعيد العسكري، أسست كثير من فصائل المقاومة للنظام ولداعميه، وتكاثرت لدرجة بلغت في مرحلة ما الآلاف. بعد عام 2018، حيث ارتسمت الخريطة العسكرية إلى حد كبير، وتراجعت حدة المعارك بفعل التوازنات الدولية والإقليمية، دخلت الفصائل في مرحلة التراخي، وانشغلت بقضايا الأمن في داخل تلك المناطق، لكل منطقته، رغم الوجود تحت مظلة الجيش الوطني. أسست تلك الحالة بيئة للنشاط في مجالات أخرى، أعطت دوراً لقادة الفصائل في ممارسة السلطة تجاه المواطنين في تلك المناطق، التي كانت في معظم الأحيان ممارسات تسلطية، كما احتفظت بعض الفصائل بسجون خاصة بها. ومن جهة أخرى، تعدت نشاطات القادة نتيجة لتلك الحالة (غياب المهام العسكرية واستمرارية الفصائلية) إلى مجالات تبحث فيها عن جني الثروة واستثمارها، وهو ما خلق منهم فئة مميزة، من حيث الثروة والعلاقات والارتباط، وكل ذلك جعل منهم قوة قهر جديدة تجاه السوريين.

وفي المجال السياسي، تعترف جميع القوى السياسية والشخصيات المعارضة بغياب الحياة السياسية في ظل حكم السلالة الأسدية، إذ اقتصر العمل السياسي المعارض على آلية توزيع المناشير وكيفية الاختباء عن أعين المخابرات. ومع انطلاقة الثورة، واجهت هذه القوى والشخصيات حالة جديدة، فمن ناحية، كان الحدث أكبر من أن تستوعبه أطر المعارضة، عدا عن تخلفها عنه، ومن جهة ثانية، لم تتخل عن روح الزعامة والسيطرة، فقدمت نفسها للخارج أولاً، متوهمة أن سيناريو ليبيا سيتكرر في سوريا، ضاربة بعرض الحائط إمكانيات التفاهم فيما بينها ومع الجمهور والفصائل العسكرية، حيث اتسمت العلاقة بالتنافر والمحاباة أكثر من علاقة التمثيل والتفاهم، وهو ما أنتج حالة من الافتراق بينها وبين الجمهور الذي تدعي تمثيله.

بعد مرور (12) عاماً على انطلاقة الثورة، لم تعد سوريا على جدول الأعمال الدولي، كما أن البحث عن تسوية سلمية شاملة لا يزال بعيد المنال

وعلى الصعيد المدني، تشكلت كثير المنظمات، تحت مظلة ما يُعرَف بـ "المجتمع المدني"، حيث عملت في عدة مجالات، مقدمةً الخدمات والإغاثة لكثير من السوريين وفي مختلف مناطق سورية. ومن جهة ثانية خضعت لعلاقات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها غير مدنية، إذ أخذت ألواناً مختلفة من الشللية إلى المناطقية وغيرها. ونتيجة للفراغ السياسي والتنفيذي المتمثل بغياب جهة تنفيذية "حكومية"، اندفعت تلك المنظمات متجاوزة دورها كإطار مدني بعيداً خارج مؤسسات الدولة وجهاتها التنفيذية لتقوم بدورها الغائب، ونتيجة طبيعة عمل هذه المنظمات وعلاقاتها بالداعم/ الراعي الذي عمد إلى خلق فئة من كوادرها مرتبطة بأجندة الراعي أكثر من احتياجات الناس، تحولت مع مرور الوقت إلى فئة مميزة، من حيث الثروة والارتباطات والتوجهات.

ما يمكن أن نستخلصه من تجارب القطاعات الثلاث التي سادت في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وخاصة بعد الأعوام الثلاث الأولى من عمر الثورة، أنها ولّدت فئات غريبة عن طموح السوريين، فئات ارتبطت مصالحها بمصالح الداعمين أكثر، فجعلت من نفسها أداة تراعي توجهات وبرامج الراعي، الذي سمح لها -سواء بشكل قانوني أو غير قانوي- بتجميع أكبر قدر من الثروة، وأدخلها في شبكة من العلاقات التي يعدها السوريون علاقات ترفٍ، من خلال عقد المؤتمرات والسفر بين العواصم، وحصول كثير من قياداتها على جنسيات أجنبية واللجوء في دول الشتات حيث ينعمون بحياة كريمة، وجلّ اهتمامهم يتركز بأحوالهم الشخصية، مقتصرين على التعامل مع الجمهور على الخطابات التي تطالبه بالمقاومة والصمود (وما النصر إلا صبر ساعة)..

يمكن عدّ حالة الحركات والنشاطات المعارضة في سوريا، وخاصة بعد الثورة، حالة فريدة نتيجة لما آلت الأمور إليها، فالارتهان لم يعد حكراً على أحد. ففي الوقت الذي يعاني فيه عموم الناس في الداخل والخارج من أوضاع بائسة، حيث تعيش الغالبية حدّ الجوع والفاقة، يعيش قادة العمل أو أمراؤه في القطاعات الثلاث حالة من الاغتراب عن الغالبية، يغوصون في وهم القيادة والتمثيل، في حين ينظر عموم الناس لهم كأداة فقط، وأحياناً كعبء إضافي عليهم. والمفارقة أن هؤلاء القادة/ الأمراء يصرون زوراً على أنهم يمثلون تطلعات السوريين، بينما يتجلى سلوكهم الفعلي تجاه قضايا السوريين في الغياب أو ترديد وجهات نظر الراعي، يصرون على اللعب رغم أنهم يلعبون في الوقت الضائع.

طرحت الثورة السورية بمطالبها بالكرامة والحرية جوهر أزمة أنظمة الاستبداد، التي تقوم على قمع الحريات وحظر السياسة، بل خنق المجتمع برمته وتحويل حياتهم إلى ما يشبه الجحيم، أو العيش كالقطيع. وبالطبع لعدة أسباب، لم تتمكن قوى الثورة، ولا المعارضة المعروفة من تحويل تلك المطالب إلى برامج سياسية يمكن تحقيقها، وركبت الموجة بخطاب عام فقد قيمته مع الزمن والتغيرات على الأرض. ولم يكن دور الفصائل العسكرية التي أسست عقب اندلاع الثورة أفضل، من دون أي تنسيق مع المعارضة السياسية، وأحياناً ضدها، وهو ما سهّل الأمر على الدول الداعمة لاستئجار تلك الفصائل وربطها بالمصالح والتوجهات الخاصة بكل طرف. وكذلك كان الحال مع منظمات "المجتمع المدني".

ربما يكرر التاريخ نفسه، ففي بداية القرن السابق، عند استعمار الدول العربية، وفقاً لاتفاقية سايكس -بيكو، عمدت السلطات المحتلة إلى تأسيس الجيوش في تلك البلاد وفق معايير تجعل منه أداة للتسلط والانقسام، وقوة قهر تجاه الناس، من خلال التركيز على أنه صاحب الكلمة النهائية، وأنه المجال الوحيد للوصول للسلطة، فهل تتكرر التجربة السابقة مع العسكريين اليوم رغم الفوارق مع القطاعات السياسية والمدنية، بأن تجعل منها الأطراف المتدخلة فئاتٍ متميزة من خلال ربط بقائها ومصالحها مع مصالح الدول الراعية أكثر من سكان البلاد، فئات تبحث عن مصالحها الجديدة من خلال الفساد والإفساد، وتدافع عنها، وبالتالي تكريس حالة الحكم التسلطي مهما اختلف الشكل الذي يتلون به، رغم تظاهرها بالدفاع عن مصالح البلاد والعباد.