مسيرة من التضحية والبطولة.. النقيب مالك عبد الحي

2022.05.24 | 14:28 دمشق

screenshot_4.png
+A
حجم الخط
-A

صمتهم جلال، وبركان يغلي فعلُهم إن هم إلى ساحات الوغى ذهبوا، زادهم في كل ذلك إخلاص لا حد لنقائه، غير آبهين بسمعة ولا شهرة، مضوا إلى بارئهم مستشهدين، ومكللين بالعز، لا يعرفهم سوى رفاق السلاح، وهاهنا رأيت أن أكتب عنهم، عن الأوائل المخلصين، تخليدا لسيرهم بعد سلسلة مقالات كُتبت عن أبطالنا المعروفين، وجميعهم خطوا لنا صفحات مشرقة لا تخبو، ننضح منها ما حيينا أسباب الفخر والشرف، بوصلتنا أننا كنا أحرارا، وسنبقى.

تضيق اللغة وتختنق العبارة، حين تستحضر الروح أمثالهم، واليوم أكتب عن النقيب الملاح، مالك جمال عبد الحي، ابن مدينة حريتان التي نحب وكانت من أوائل المدن المنتفضة في وجه نظام البؤس والعبودية واللصوصية، أسوة ببلدات ومدن كثيرة في ريف حلب الشمالي.

الأمل والخذلان

ابن ثورتكم البار، مالك جمال عبد الحي، هو ابن عائلة ثورية قدمت كل أبنائها شهداء على مذبح الحرية، ولد عام 1987 في كنف هذه العائلة ونشأ وترعرع في مساكن الشعيرات العسكرية مع عائلته بحكم عمل والده الذي كان ضابطا في مطار الشعيرات حتى إحالته إلى التقاعد عام 2006 برتبة مقدم.

انتسب مالك عبد الحي إلى الكلية الجوية باختصاص ملاح عام 2007 ليلتحق بشقيقه الأكبر محمد الذي سبقه بعام إلى الكلية نفسها، بتشجيع من والدهم الذي ربى أولاده على حب الوطن والتضحية في سبيله، معتقدا أن مهمة الجيش هي الدفاع عن الوطن وحماية الشعب. الزرع طيب وخيّر، لأن ما من أحد كان ليخطر بباله أن هذا الجيش الذي أفنى والد شهيدنا أربعة وثلاثين عاماً من حياته في خدمته بكل تفان وإخلاص سيوجه كل ما يملك من سلاح إلى صدور أبناء الوطن، وما كان ليتخيل أن أولئك الزملاء الذين تشارك معهم الهواء والماء والمسكن، هم وأولادهم من سيقتلون أولاده الثلاث، لكن من يرضع أبناءه الحق ليس مثل من يرضعون أبناءهم الحقد، ومن ثم كانت الثورة، وبدأ الفرز.

الاستحقاق الأكبر

مع بداية الحراك الثوري عام 2011، سُرح شقيقه الأكبر النقيب محمد من الجيش بشكل تعسفي، بسبب التزامه الديني والأخلاقي وتعاطفه مع الثورة، وكان لقائده، قائد مطار دير الزور العسكري العميد بسام حيدر، المعروف بحقده الطائفي دور كبير في ذلك فكان يحوّله لأسباب واهية إلى فرع المخابرات الجوية لينال نصيبه من العذاب، والتعذيب، والإهانة، والإذلال.

التحق محمد شقيق شهيدنا الأكبر بصفوف الثوار من أبناء مدينته ومعه شقيقه عبد الرحمن الطالب في الثالث الثانوي (البكالوريا) وحملوا سلاحهم الفردي في وجه آلة النظام العسكرية التي كانت تجتاح ريف حلب الشمالي في ربيع عام 2012.

وفي جمعة (من جهز غازياً فقد غزا) بتاريخ السادس من شهر نيسان دارت معركة غير متكافئة بالجند والسلاح والعتاد بين مجموعته الصغيرة المؤلفة من أحد عشر ثائراًـ، وبين ثلاثمئة من أفراد جيش النظام وأمن الدولة المدججين بالسلاح والذخيرة، تتقدمهم الدبابات وعربات الشيلكا وبغطاء جوي من طائرة هيلوكوبتر.

تحصن محمد مع رفاقه في أحد البيوت على مدخل البلدة، لم يكن بحوزتهم سوى سلاحهم الفردي، (أربع بنادق كلاشنكوف وخمس بنادق صيد).

قاومت المجموعة لأكثر من ثلاث ساعات، وألحقوا خسائر مادية وبشرية بالأعداء، وكما تسلل أحد أفراد المجموعة وهو عبد الحميد خسة إلى خارج المنزل مع بندقية صيد (بمبكشن) وقتل قائد الحملة المقدم في أمن الدولة وقائد سرية المداهمة (مالك مسعود) فأرداه قتيلاً.

بعد مقتل المقدم سعود، ورفض مجموعة الثوار الاستسلام، جن جنون قوات النظام فبدؤوا برمي القنابل الفوسفورية الحارقة على المنزل ما اضطرهم للخروج، فانهال عليهم الرصاص كالمطر، وارتقى النقيب محمد وشقيقه عبد الرحمن ومعهم سبعة آخرون هم زكريا أقرع، أسامة علو، عبد الحميد خسة، عمر نعناع، محمد صهيب نعناع، يوسف بوشناق، مصطفى حمود، ونجا اثنان فقط من المجموعة هم عبد الدايم نعناع ومحمد حسان جقلان، ليسجلوا أول فصول ملاحم البطولة في ريف حلب الشمالي.

نهر جارٍ اسمه الشرف

شهيدنا، النقيب مالك عبد الحي، كان يخدم في مركز توجيه الطيران في جبال خناصر، كان يتحين الفرصة الملائمة للانشقاق عن جيش النظام، لكن هذا الحرص تبدد مع استشهاد أخويه، فقرر ألا يبقى ساعة واحدة متخذا قرار الانشقاق لا يبالي بخطر الانكشاف والتصفية أو الاعتقال في أحسن الأحوال.

التقيت الشهيد مالك مع والديه في مخيم الضباط على الحدود السورية التركية، وكانت خيمتهم بجانب خيمتي، وكنت مستغربا أن ذاك الشاب الصغير الذي تتفجر ملامح الحياء على وجهه هو ضابط، إذ لم يتسرب إليه شيء من صفات ضباط الجيش السوري، بل كان كتلة تتحرك من الخلق والدماثة والتهذيب والصمت الذي يزيده وقارا على صغر سنه.

حينها، كانت ثمة مناشدات أن يبقى إلى جانب والديه المكلومين بأخويه الشهيدين، لكنه ظل يصر على الالتحاق سريعا بالجيش الحر، وبعد عشرين يوما، عدنا معا إلى سوريا، وذهب مباشرة إلى بلدته التي لم تكن قد تحررت بعد بالكامل، وشكل هناك كتيبة الزبير بن العوام، وانخرط على الفور في معارك التصدي لأرتال قوات النظام المتجهة إلى اعزاز وتل رفعت ومارع وباقي بلدات ومدن ريف حلب الشمالي.

شاركنا الشهيد أيضا جميع مراحل تشكيل المجلس العسكري، وفي يوم الإعلان عن المجلس، كان هناك إجماع على صدقه وأمانته، وكُلف بالإشراف على اللجنة المالية، وكان يتجنب بقدر وسعه كل أشكال الظهور وخصوصا الإعلامي منه، بل اختط لنفسه خطه، واختار مكانه، أن يكون مقاتلاً في الخطوط الأولى.

كان جسده ذاكرة لمعارك الشرف، عرف ميادينها وغبارها وتضحياتها، ما منعه يوما غياب التكافؤ مع قوات النظام، ومن المعارك التي شارك فيها تصديه لحملة قوات النظام على الريف الشمالي في يونيو حزيران 2012، وكذلك تحرير مدينة اعزاز، وحاجز بيانون، ومخفر حريتان، وله دور بارز في تحرير حاجز عندان الشهير في رمضان من العام نفسه، وكان عالي الهمة، سريع التلبية لكل نداء مؤازرة، في جميع جبهات حلب.

إلى القصير

توجهت لوداع عائلتي قبل يوم من ذهابنا إلى مدينة القصير نصرة لأهلها، وكان ذلك في بداية مايو أيار ٢٠١٣ مع رفيق الدرب الشهيد عبد القادر الصالح، وثلة من أبطال حلب الميامين.

حينها التقيت بوالدة الشهيد مالك، وهي أم جليلة صابرة محتسبة، طلبت مني إقناع ابنها بالبقاء في حلب لأنه كل من بقي لها بعد استشهاد أخويه، وفعلا، حاولت مع زملائه جاهدين إقناعه بالبقاء، لكنه إلى جانب حيائه وصمته، كان سيفا بتارا إن اتخذ قرارا، صلبا قويا، تكسر أمام صلابته استبسالنا في إقناعه، وحُسم الأمر، وقرر مرافقتنا إلى القصير.

الذهاب إلى القصير، كان يعني دخول المجهول، مدركين أن فرص مقتلنا هناك أكبر بكثير من عودتنا، فقد كنا مثل نهر ضفتيه الموت، بل والموت فوقنا أيضا، وفي الطريق كان يصر مالك أن يجلس على ظهور عرباتنا مع المقاتلين، لا تعرف السر في سعادته، فيما أفسره أنها لحظة انسجام بين قرارة نفسه وقراره، ولو كان المآل استشهادا على الطريق.

مرة ثانية، حاولت منعه دخول مدينة القصير، وطلبت منه البقاء في المجموعات الداعمة المنشأة في جبال قارة، وأكدت عليه أن هذا القرار ليس حرصا على حياته، بل هو ضرورة لا تقل عن دخولنا، ليكون ضمن مجموعات المؤازرة حال حصارنا، لكن هيهات هيهات، فمن قرر أن يكون في الخطوط الأولى لا يقدر بأي حال من الأحوال الوقوف والانتظار والمراقبة.

كيف يمكن أن يكون هو الشخص ذاته، ذاك الشاب الحييّ الخجول، هو ذاته الإعصار الهادر في المعارك، كان أسدا هصورا يتقدم الجميع، رشيقا شجاعا مقداما. يظل ينتقل من جبهة إلى أخرى لا يملك في هذه الدنيا سوى بندقيته وجعبته، وحين الإياب يشارك أفراد مجموعته حراسة المقر، وإعداد الطعام وجلي الصحون، أي مزيج فذ هذا، بين سماوات القوة والتواضع.

من هذه ما ترددت في ذكره طويلا في هذا المقال، مالك كان في لحظات الراحة، إن لم تكن هناك معركة يخوض غمارها، أو رباط، يعود إلى بلدته، يبيع على بسطة متواضعة ما تيسر له، ليجمع أموالا قليلة، يرسلها إلى أهله، وقد أوردت هذه الجزئية لأنها تضيف إلى أسباب عظمته سببا جديدا، ألح عليه بعد الحال الذي وصلنا إليه، ولا يغيب عن أحد، ولك أن تتأمل أكثر، وترسم خارطة روحية ومعنوية، لأخلاق وسلوك شهيدنا.

هكذا مضى 

في خريف عام 2014 كثفت قوات النظام هجماتها على حلب بهدف وصول رتل دبيب النمل كما بات يعرف، من ريف حماة إلى حلب، مستخدما في زحفه الطيران الحربي والمروحي وكل صنوف الأسلحة والبراميل في تجسيد عملي لسياسة الأرض المحروقة.

دارت رحى معارك ضارية غير مسبوقة في مناطق حندرات والملاح والكاستلو والمناطق القريبة من بلدته، فكان مالك يتقدم الصفوف متصديا لعصابات الأسد، وهذا ليس وصف نابع من عداء، بل وصف عسكري دقيق، فالجيش الذي انشق عنه مالك تحول فعلا إلى عصابات، على صعيد البنية والتحركات والأهداف.

ظل شهيدنا مالك عبد الحي، يحرث جغرافية حلب، يقاوم عصابات الأسد في معارك جميعها غير متكافئة، ومجرد خوضها هو طلب شهادة، إلى أن جاء ما بدا أنه سعى إليه وانتظره، النصر أو الشهادة، فكانت له الثانية.

ارتقى مالك عبد الحي شهيدا جميلا في 13 أكتوبر 2014، مع ثلة من مجموعته الأبطال في معركة تحرير تلة المضافة.

ارتقى مالك عبد الحي، مغمورا عند كثير من جمهور الثورة، لكن الثورة تعرفه، والميدان يعرفه، وكل استحقاق شجاعة وبذل كان هو صاحبه.

ترجل فارسنا، شهيدنا، وقدوتنا، ابننا، أخونا، وأخوكم، الشهيد مالك عبد الحي، ليبقى حياً في وجداني، وفي وجدانكم كما آمل، لتنتقل سيرته بيننا ومنا إلى أبنائنا، لنخط معا تاريخ ثورتنا، سطرا بسطر، وصفحة بصفحة.

كلمات مفتاحية