أحاديث ثقافية: لقمان ديركي يقتل الزير سالم

2020.11.10 | 23:00 دمشق

maxresdefault_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

من فوائد حضوري المهرجانَ الأدبي الذي اشترك في إقامته اتحادُ الكتاب العرب مع اتحاد الشبيبة، في مدينة الرقة عام 1983، أنني تعرفت على رائد القصة القصيرة السورية الأستاذ علي خُلُقي (1911- 1984) عن قرب.. وبالمصادفة كانت وفاتُه بعد سنة واحدة من ذلك المهرجان.

علي خلقي رجل دوماني، لطيف جداً، كرسته مجموعتُه القصصية الوحيدة "ربيع وخريف- 1931"، بإجماع دارسي الأدب، رائداً للقصة القصيرة المكتملة فنياً في سوريا، وهي تتألف من سبع قصص، وقد أبدع، فيما بعد، مجموعة قصصية ثانية أُدمجت مع المجموعة الأولى وصدرتا في كتاب واحد سنة 1980 عن اتحاد الكتاب العرب.    

في أحد كواليس الفندق الذي أقمنا فيه نحن المشاركين، كان ثمة صبايا وشبان متحلقين حول علي خلقي، يسألونه عن تجربته في الكتابة، دخلت بينهم، وعرفته على نفسي، وجلست. كان أحد الحاضرين يسأله عن كيفية ظهور موهبة الكتابة النثرية لديه، وبالأخص في فن القصة القصيرة الذي لم يكن معروفاً في مطلع الثلاثينات، إضافة إلى أن الناس آنذاك كانوا غارقين في الأمية.

التقط علي خلقي من السؤال مفتاحاً للإجابة، وقال إن امرأة "أميّة"، من أهل حارته، كانت تعيش في كنف شقيقها بعدما توفي أبواهما، ولكن ظروف الحياة قهرته، ولم يعد يعثر على عمل يكفيه وشقيقتَه، فغادر سوريا للعمل في الأرجنتين، وصارت هي تعمل في بيوت الأغنياء "لفاية"، لكي تعيش. وذات يوم جاءت إليه تحمل في يدها ورقة كُتب عليها عنوان شقيقها، وطلبت منه أن يكتب له رسالة يشرح فيها كم تتعب وتشقى في العمل، وترجوه أن يعود إلى دمشق.. فكر "علي خلقي" أن كتابة رسالة تقليدية تتضمن هذه الأسباب (تعب وإرهاق ولهوجة) لن تدفع شقيق المرأة إلى العودة، والأفضل أن يثير لديه حمية الغيرة على العِرض، فكتب، على لسان المرأة، أنها كانت تعمل في بيت أحد الأغنياء، وعندما خرجت صاحبة البيت لتأمين بعض الحاجات، تحرش بها الزوج، وقرصها، ولو لم تهرب منه لحصل ما لا يسر الخاطر، لا سمح الله.. وما حصل أن الرجل بمجرد ما استلم الرسالة عاد! وأما هو فقد اختبر بتلك الرسالة مقدرته على التأليف القصصي.

وتعرفت، في ذلك المهرجان، على الأديب والفنان المبدع حاتم علي، وأصبحنا أصدقاء، ومع أن جائزة القصة القصيرة التي كان يستحقها لم تُعْط له (لأن الأستاذ عبد النبي حجازي كان قد حجزها لحسن حميد كما أسلفتُ) إلا أن حاتم علي استطاع أن يشق لنفسه طريقاً مختلفاً، أعني في مجال الدراما، وإن كان قد بقي على حبه لأدب القصة القصيرة، وأصدر، فيما بعد، مجموعتين قصصيتين هما "موت مدرس التاريخ العجوز" و"ما حدث وما لم يحدث"، إلا أن موهبته الأساسية في ميدان التمثيل والكتابة الدرامية كانت أكبر بكثير.. يعود ذلك إلى أنه خريج المعهد العالي للفنون المسرحية.. ومما كان يصلنا من أخباره أنه كتب أعمالاً درامية جيدة، مثل مسلسل "زائر الليل" الذي أخرجه محمد بدرخان، ومسلسل "القلاع" الذي أخرجه مأمون البني، بالإضافة إلى أعمال قصيرة أخرى، ولعل هذه الأعمال كلها لم تكن سوى تمرينات على الهواية التي جعلته يكبر كثيراً ويتألق، وأعني الإخراج التلفزيوني، (ومن بعده السينمائي)..

أذكر أن أول عمل تلفزيوني أخرجه حاتم علي هو "أمينة الصندوق" الذي كتبه إبراهيم ياخور اقتباساً عن قصة روسية عنوانها "نقود لماريا"، وكان ذلك في سنة 1994 مع بداية الطفرة الإنتاجية الدرامية في سوريا، وظهور شركات القطاع الخاص..

صار الناس، في الوسط الفني، يتحدثون عن انتقال حاتم علي من التمثيل إلى الإخراج، وقدم، بعد أمينة الصندوق، مسلسلات هي: فارس المدينة، وسفر، ومرايا، والفصول الأربعة، وفضاءات رمادية، وصولاً إلى سنة 2000 حيث يمكننا أن نتحدث عن قفزة نوعية، أو لنقل إنه حقق ما يسمى في علم الحظ (صولد)، مع مسلسل الزير سالم الذي كتبه المبدع ممدوح عدوان..

لمسلسل الزير سالم حكاية ذات دلالة، فقد أنجزه ممدوح في مرحلة التقتير الإنتاجي، حيث كان المنتج يطلب من الكاتب أن يحذف من نصه المَشَاهد التي تحتوي على مجاميع بشرية تحتاج إلى كومبارس وأماكن التصوير "اللوكيشينات" الباذخة، وحتى عدد الشخصيات كان المنتج البخيل يقترح على الكاتب اختصارها، وإذا كان لا بد من وجود الحوارات التي تنطق بها الشخصية المحذوفة يمكن أن تُقَال على لسان شخصية أخرى!.. وتمر الأيام، ويقتحم هوامير المال عالمَ الإنتاج الدرامي، وهؤلاء يفتحون الباب على مصراعيه ليس فقط للإنتاج الدرامي ذي التكلفة العالية، بل وللبذخ الإنتاجي، ويبدأ البحث عن نصوص مهمة بغض النظر عن تكلفتها الإنتاجية، وهنا يجد مسلسل "الزير سالم" فرصة نادرة ليخرج بأجمل حلة بقيادة حاتم علي، ويحقق نجاحاً استثنائياً على الصعيدين الفني والشعبي: نص جميل، إخراج متميز، بذخ إنتاجي، فنيون متميزون، ممثلون نجوم.. إلخ..  

روى لي أحد العاملين في الفن، عن شخصية حاتم علي الإخراجية القوية، أنه يأتي إلى لوكيشن (مكان) التصوير، ويلقي عليه نظرة، فإذا وجد أن الفريق الإنتاجي لم يجهز المكان بحسب توصياته، يدير ظهره ويقول:

- فركش.

والكل يعرف أن "الفركشة" تكلف على الشركة المنتجة أموالاً لا يستهان بها، دون الحصول على أي مقابل.

يحكي مسلسل الزير سالم، بلغة الدراما، حكاية الحروب العربية "الهزلية" التي تمتد على سنوات طويلة، ويذهب وقوداً لها عشراتُ الألوف من الناس، وتكرس عداوات بين أناس يعيشون في البلاد ذاتها، ويشربون المياه ذاتها، ويتحدثون اللغة ذاتها، ولا يستفيد منها المتقاتلون عبر السنين سوى بحكمة صغيرة يرددها الحارث بن عباد "خالد تاجا" مراراً في المسلسل: هي حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل.

يُقتل الزير سالم، قاهر الأبطال والصناديد، في خاتمة ذلك المسلسل، بعد أن يحني الزمنُ ظهره، وبطريقة تَقَصَّدَ المؤلف والمخرج أن يجعلاها غير لائقة ببطل فرد (لئلا يقال إنهما يمجدان البطولات السوبرمانية).. وكان الممثل الذي قام بدور قاتله هو لقمان ديركي، وهذا الأخير إنسان مرح، كل مَن يعرفه يدخل معه في جو من المزاح والفكاهة، ومن هنا استطاع ممدوح أن يطلق نكتته التي سرعان ما ذاعت في الوسط الفني، إذ قال:

- شو هالزير اللي بيقتله لقمان ديركي؟!