ما بين الإسلام والعلمانية هل هو طلاق بائن؟

2023.07.21 | 07:06 دمشق

آخر تحديث: 21.07.2023 | 07:06 دمشق

العلمانية
+A
حجم الخط
-A

في خضم التنابذ الأيديولوجي الذي نعيشه اليوم؛ وتحت ضرورة البدء بكثير من المراجعات الداخلية فيما بيننا كسوريين أشعلوا ثورة ضد نظام أبوي لا يبقي ولا يذر، وأعلن حربا على الجميع مستخدما فيها الجميع، لا بد أن يبحث المرء في أسباب ما آلت إليه ثورتنا وينبري للتفكر في حزمة الأسباب الموضوعية والذاتية التي حاصرتها وأدت إلى تعثرها.

يطرح كرين برينتن في كتابه تشريح الثورات بعد دراسة وتشريح أربع ثورات في العالم بالقرن السابق رأيا مفاده أن الشعوب ليس بالضرورة أن تحقق أهداف ثوراتها مباشرة وقد تحتاج عقودا، ورغم اختلافه مع الكثيرين في تعريف الثورة لكن رأيه الأخير لم يكن موضع خلاف؛ ما يدفعنا وبعيدا عن تحليلاته الفارقة أن ننبش في هذا المخاض ونتحاور للبحث عن خلاص يطول الجميع، وإن كانت القوى الدولية قد فعلت فعلها في إرباك ثورتنا وشاركت في أسلمتها وخطفها وتشويهها وأمعنت في تنابذ السوريين؛ فإن الوقت ما زال يتسع للتفكير بمنأى عن تلك القوى لعمل مراجعة عميقة فيما سال من دم لأجل سوريا الحرة وخذلته أقلامنا وعواطفنا وأيديولوجياتنا بقصد وغير قصد.

إن ما شهدته ثورات الربيع العربي والموقف الدولي من الالتفاف عليها ودعم الثورة المضادة؛ يكشف عري الحقيقة حول تلك القوى التي عول الكثير منا عليها، ويمثل مرحلة فاصلة تشبه تلك التي اجتهد العرب في تسميتها نكسة الـ 1967، ونكبة 1948، وإن كان آباؤنا قد خسروا معاركهم في أعوام النكسة والنكبة فإنا لم نخسر ثوراتنا بعد ولم تنته بعد، غير أن هناك مرحلة مفصلية تعتقنا من أسر التسميات وثقلها السوداوي؛ وتفيد في التعرف على لحظة التفارق بين التي حفرت وما زالت تحفر بيننا الآن؛ للبحث عن إمكان تجاوز ما تركته من تحزب وتخندق. فلنعد لمرحلة تعاون فيها أوائل مثقفينا ومفكرينا قبل قرن ونيف في بدايات ما أطلق عليه النهضة العربية أواخر الخلافة العثمانية، والجهود الثقافية آنذاك التي اكتشفت تأخر الشرق وتقدم الغرب، وتلك لحظة محمومة وناجعة لنجد أننا الآن في البدايات وليس في النهايات كما يتوهم البعض.

نظرا للصدمة الحضارية التي أصابت العرب والمسلمين؛ تداعى مثقفون علمانيون وإسلاميون لسد الهوة بين الشرق المسلم الذي كان يغط في التخلف والجهل، وبين أوروبا القادمة بأسلحتها ونزعتها الاستعمارية والمتسلحة بعلوم ومنجزات، ورغم أن الحداثة وفدت إلينا على ظهور الدبابات وتحت نيران المدافع ولم تنجز سوى التمزيق والهتك، لكن ما حملته الحداثة من أفكار وقيم وعلوم؛ مثل تطورا حياتيا واقعيا لا يمكن اعتزاله، وقد تفكر به مثقفونا الأوائل ونشطوا مجتمعين على اختلاف منابتهم الإثنية والدينية والسياسية في القطر السوري وفي مصر.

نظرا للصدمة الحضارية التي أصابت العرب والمسلمين؛ تداعى مثقفون علمانيون وإسلاميون لسد الهوة بين الشرق المسلم الذي كان يغط في التخلف والجهل، وبين أوروبا القادمة بأسلحتها ونزعتها الاستعمارية

وأمام انكشاف التدخل الدولي وسقوط تبني الغرب لمقولات إنسانية كبرى نحن الآن أمام صدمة أخرى تكاد تشبه تلك في بدايات القرن الفائت قبيل الاستعمار وحينه؛ لكنها ليست معجزة ولا محيرة، مع ضرورة المقابلة بين القيم الغربية والشرقية واصطدام إمكان الدولة الحرة خارج أطر الكولونيالية الجديدة مع الرغبة الدولية وجها لوجه، ونظرا لاعتبار الصدمة الحالية ليست في البون الشاسع بين شرق وغرب علميا، بل في الأهداف التي تنزع لها الشعوب فإن ذلك يضعنا في مواجهة مع أنفسنا في سبل الخلاص ويتحتم علينا التفكير المستقل والشجاع بآن والعمل المشترك وابتداع آلياته لتجاوز كل ما فرقنا عبر تجاوز مسببات الافتراق التي عصفت بآبائنا في بدايات النهضة قبل قرن.

يتحدث د. برهان غليون في كتابه الأخير "سؤال المصير- قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية" عن التشارك في الرؤية ورغبة التحضر، والانطلاقة المشتركة بين المفكرين الإسلاميين من ذوي الرؤية الدينية الإصلاحية وحملة الفكر العلماني أيضا، ولا يغيب عن دارس تلك المرحلة أن يلاحظ قيمة تلك الوثبة التي تبغي تجاوز مرحلة السبات العميق التي عيشت في دين كانت الصوفية جزءا منه من زهد واعتزال عبر بضعة قرون، وانحرفت وشطحت لظروف موضوعية تتعلق بأنظمة السلطة، وذاتية جذرية فكرست عبر بوابة الأولياء والكرامات والأضرحة والزوايا أشكالا من التدين الجاهل وتكوين النفسيات الراكنة للتعبد بعيدا عن الفعل في محيطها، وفتحت باب الخرافات والشعوذة والتخلف في بلاد مترامية الأطراف، إضافة إلى الترهل في مؤسسات الدولة العثمانية في أواخر عهدها؛ فتآزرت جهود المفكرين من جهة لإخراج الدين من مرحلة الركود وكذلك النخب العلمانية للتعلم والثقافة وإنتاج الأفكار، ونتلمس بتلك المرحلة اتفاق الجميع على أن المشكلة لم تكن في الدين بل في أنماط التدين القارة حينذاك ولم يهاجم أحد الدين لأن التخلف حينها كان معمما وشاملا شتى نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومتعلقا في كثير من جوانبه بنمط الدولة السلطانية كإمبراطورية تعيش انحدارها التاريخي؛ فحدثت ثورة بيضاء نحو الإصلاح بين حملة الدين وبين المثقفين من ذوي التوجه العلماني فشهدت نشاط جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وفعاليات شتى في مختلف التوجهات السياسية من عام 1889م حتى 1914، ومن رواد تلك المرحلة يلحظ نشاط رشيد رضا في مجلة المنار، الذي يمثل خروجه فيما بعد نحو الاتجاه الديني المفصل المهم والافتراق الأول في مسيرة النهضة الأولى، حيث كان الافتراق بين اتجاهين: الأول تبني البعض من الدعاة اليساريين لليبرالية الغربية بكل ما فيها حتى وصل الأمر بالدكتور طه حسين فيما بعد مثلا أن يعتبر مصر ليست تابعة للشرق بل للغرب وعليها أن تسرع في خطوها للتحضر (وهو ما أورده د. برهان غليون في كتابه)، وبين مثقفين ومفكرين إسلاميين تبنوا النهضة والتجديد الديني -بالعودة لقيمه الأولى أحيانا- شعروا أن دعوة التحضر والتمدن والتحديث قد ابتليت بمن يروج لمفاهيم الغرب وقيمه بكليتها، ويضع العطب كله في الدين دون غيره، ما دفع أصحاب التوجه الإسلامي أن ينفروا للدفاع عن دينهم، مع إيمانهم برؤاهم الإصلاحية التي تعثرت عبر الانشغال بالهجمة على الإسلام، فكانت لحظة الافتراق الأولى بين رواد النهضة بين التعويل على غرب مستعمِر وبين النهوض عبر إمكانات البلاد وثقافتها ومرجعياتها، دون الانسلاخ عن الهوية والثقافة والتاريخ، وذلك ما شكل نزعة أصولية لدى ذوي التوجه الإسلامي قبالة متبني التغريب الكلي، فهل تنفع تلك اللحظة وتحت وطأة ما نعيشه الآن أن نتفكر فيما يمكن تعلمه من هذا الغرب؟

ورغم تلك اللحظة الفارقة نجد في مرحلة أخرى ما بعد الاحتلال الفرنسي كيف حمل أبناء دمشق المسلمون فارس الخوري على الأكتاف دون وجل ولا منة، إن في مجتمعاتنا البسيطة البعيدة عن برامج الغرب وقواه ما يعوَّل عليه من وطنية سورية بكر يجب الإبقاء عليها وتغذيتها وتبنيها، وتمثل الأرض التي يمكن أن نجتمع عليها بعيدا عن تنابذ الأيديولوجيات وتطفئ حمى الثنائيات التي صارت مدخلا لقوى الغرب ذاتها لتأطيرنا واحترابنا، ومثلما لا يحق لأحد أن يصم اليسار السوري الثائر بالماركسية التي رعت دكتاتوريات كثيرة وانتشرت بالسلاح والدبابات على دماء الشعوب لا يحق لأحد أن يختزل الإسلام بداعش أو بأي تنظيم إسلامي سياسي أو عسكري فشل في الثورة أو أفشلها.