icon
التغطية الحية

 فيلم "بوردينغ" لغطفان غنوم.. عن تلك اللعنة التي تلاحق السوريين

2021.01.10 | 15:16 دمشق

thq.jpg
ضاهر عيطة
+A
حجم الخط
-A

ما يتعرض له اللاجئون السوريون في العديد من دول اللجوء منذ عشر سنوات، مصحوبًا بحرق خيامها مؤخرًا، كما حدث في جزيرة ليسبوس اليونان في الـ 20 من أيلول 2020، وكان قد أعقبه حريق سابق اجتاح المخيمات في الجزيرة نفسها قبل مدة قصيرة، ما أدى إلى نزوح أكثر من 13 ألف لاجئ إلى مخيمات جديدة قرب ميناء ميتيلبني اليوناني.

ولحق بتلك الحرائق، احتراق آخر في مخيم للاجئين السوريين ببلدة المنية شمالي لبنان منذ فترة قريبة، وهذا ما يستدعي الوقوف عند فيلم "بوردينغ" العنوان الذي اختاره المخرج السوري "غطفان غنوم" لفيلمه الوثائقي الطويل، وفيما يعنيه العنوان "منح اللاجئ وثيقة تسمح له بمغادرة الحدود".

وحتى هذا اليوم، ثمة عشرات الآلاف من السوريين القابعين داخل الخيام في العديد من الدول العربية والأجنبية، لم تُمنح لهم وثيقة "بوردينغ" لتحررهم من جحيم العيش في مخيمات اللجوء.                                                            

مهدت التيمة التي يعالجها الفيلم، الفرصة ليتم عرضها في العديد من الدول الأوربية، خصوصاً وأن مدينة أثينا كانت الفضاء الذي جالت فيه كاميرا غنوم قبل خمس سنوات من الآن، وربما كان قد تم في حينه، تصوير المخيمات التي أتت عليها النيران مؤخرًا، علمًا بأن مشاهد الفيلم تشي بإمكانية حدوث الأهوال والكوارث وسط تلك المخيمات. إذ بدا اللاجئون السوريون العالقون في الجزر اليونانية، وكأنهم محتجزون في معتقلات.

اقرأ أيضاً: "الرجل الذي باع جلده": فيلم عن لاجئ سوري مستوحى من وشم

تلك الصورة أحالتنا إلى مأساة السوريين في معتقلات العصابة الأسدية، في حين أن معظم الشخصيات المطروحة في الفيلم، كانت قد هربت من طغيان الأسد ومعتقلاته، لتجد نفسها في نهاية المطاف تحت وطأة طغيان من نوع  آخر، يمارس هذه المرة على يد أجهزة الأمن اليونانية، التي مارست بحقهم شتى أنواع القهر والحرمان، وصل في بعض الأحيان إلى حد التعذيب الجسدي والتصفية، دون أدنى اكتراث بالأسباب التي دفعتهم لركوب البحر، والإقدام على مغامرة من هذا النوع، لتتضاعف بذلك ملامح  الشبه مع ما تقوم به عصابات الأسد، مع فارق أن الضحايا هنا يوجدون على أرض أوروبية.                                                                              

وكما يكثر تجار الدم والجلادون في دولة التنظيم الأسدي ومعتقلاته، فقد أشارت كاميرا غنوم إلى من يماثلهم على هذه القارة، حين يقدم البعض من رجال الأمن، وغيرهم من الزعران، على سرقة نقود اللاجئين، بزعم تحريرهم من معسكرات الحجز الاحتياطي، وهي بالطبع، كما أكدت أحداث الفيلم، مزاعم كاذبة، غير أن الضحايا الذين تحدثوا أمام الكاميرا، ونتيجة لليأس وقلة الحيلة، لم يجدوا إلا أن يصدقوا مزاعم كهذه، وهم الباحثون عن أي الخلاص، حتى لو كان سرابًا.                 

وهنا أيضًا، يحيلنا الفيلم، إلى الكذب الذي يمارسه ضباط وعناصر أجهزة الأمن السوري على الضحايا وذويهم، بحجة إخراجهم من المعتقلات، وذلك مقابل أجور مادية، تصل في كثير من الأحيان إلى ملايين الدولارات.

جاءت مجمل الأحاديث عن الانتهاكات والفظائع المروية على شفاه الضحايا، كوثيقة تؤكد ما يتعرض له اللاجئون في المخيمات من ذل وقهر، وتعكس الملامح القبيحة التي باتت ترتسم على وجه الحضارة الحديثة

وانطلاقًا من هذا الربط بين معاناة السوريين في وطنهم، وفي مخيمات اللجوء، راح الفيلم يقدم وثائقه العينية، تاركًا الضحايا وجهًا لوجه أمام الكاميرا، ليروا حكاياتهم، وما يتعرضون إليه من اضطهاد وممارسات نالت من كرامتهم وإنسانيتهم على يد حرس الحدود اليونانية، بحيث أمكن لكاميرا غنوم أن تنقل المعاناة الإنسانية بحساسية عالية، راصدة حشوداً من العائلات، رجال ونساء وأطفال، مبعثرين وسط الحقول، وعلى قارعة الأرصفة، وكان البعض منهم يصر على وضع شريط لاصق فوق فمه، تعبيرًا عن رغبته بالصمت وعدم الكلام، ليستحيل الصمت هنا، إلى صراخ مدفون في أعماق المعذبين على هذه الأرض، طالما وأن مناشدة الضحايا للرأي العام العالمي لم تجد نفعًا.                                                                                             

جاءت مجمل الأحاديث عن الانتهاكات والفظائع المروية على شفاه الضحايا، كوثيقة تؤكد ما يتعرض له اللاجئون في المخيمات من ذل وقهر، وتعكس الملامح القبيحة التي باتت ترتسم على وجه الحضارة الحديثة، إذ ورد على لسان إحدى الشخصيات، في إشارة إلى حادثة تخديرهم وهم عالقون في منطقة حدودية على الشريط اليوناني، بعد أن تركوا لأيام دون طعام أو كساء، وما إن حصلوا على وجبات طعامهم، أخذوا يلتهمونها مباشرة من فرط الجوع، وسرعان ما تبين لهم أنها كانت محشوة بمادة مخدرة، جعلتهم يغطون في نوم عميق، وكان ذلك، تمهيدًا لاقتحام عناصر الشرطة للمخيم، وسوقهم الى أماكن الاحتجاز، حتى أن مصير البعض منهم، ما من خبر يعرف عنهم حتى رواية أحداث الفيلم.     

اقرأ أيضاً: هل نجح السوريون في صنع أفلام وثائقية حقيقية عن الثورة؟

 ولشحن الفيلم بمعانٍ ودلالات، إزاء قضية إنسانية حساسة ومصيرية إلى هذا الحد، وفي لمحة ذكية، التقطت كاميرا غنوم في مرات عديدة، مجموعة من القطط وهي تجوب أزقة وحواري مدينة أثينا، تلميحًا إلى أن مصير اللاجئين العالقين على الحدود، ما عاد يختلف عن مصير الحيوانات.

ولإظهار المفارقة بين ماضي أثنيا العريق وحاضرها البائس، أدخلت في متن الموضوعة التي يتناولها الفيلم، لقطات تشير إلى تاريخ هذه المدينة، يوم كانت رمزًا للفكر وللقيم الإنسانية، فأوشكت عظمة وقيم تاريخ هذه المدينة، تبدو كخرافة أمام الجحيم الذي يعيشه اللاجئ على أراضيها، لاسيما أن الحكايات عن المآسي والآلام، أتت على لسان الضحايا، وليست وجهة نظر يمليها الفيلم على مشاهديه، فالرواة هنا، يتحدثون عما نالهم من ذل وقهر، دون أن يخلو الأمر من وقائع قتل وسرقة واغتصاب، تعرض لها البعض منهم.

حملات إعلامية موجهة من قبل الحكومة اليونانية، سعت للتغطية على مثل تلك الجرائم، ما جعل جغرافية مدينة أثنيا، هنا أيضًا، فضاءً يتماهى إلى حد ما، مع ممارسات القتل والنهب والسرقة والاغتصاب في المدن السورية

ونتيجة لفداحة المصاب و الرعب، لم يتردد اللاجئون في الحديث عن مثل هذه الفظائع أمام الكاميرا، بيد أن حملات إعلامية موجهة من قبل الحكومة اليونانية، سعت للتغطية على مثل تلك الجرائم، ما جعل جغرافية مدينة أثنيا، هنا أيضًا، فضاءً يتماهى إلى حد ما، مع ممارسات القتل والنهب والسرقة والاغتصاب في المدن السورية، علمًا بأن كاميرا غنوم سعت جاهدة، لزيارة تلك المواقع التي تحدث عنها الضحايا، والتي تجري فيها كل هذه الفظائع، لكن استحالة ذلك أتت من كون كل من حاول تصوير ما يحدث هناك، كان مصيره القتل أو الاختفاء، ما يؤكد حرص السلطات السياسية والأمنية، للتعتيم على جرائم من هذا النوع، ورميها خلف الشمس، دون الاكتراث على سبيل المثال، بحال الأب الذي أنفق كل ما كان يملك لينجو بنفسه من عنف الأسد وعصاباته، غير أنه تعرض لعنف مشابه على الأرض اليونانية، ما جعله طوال زمن الفيلم، مستغرقًا في عزلته وخيبة آماله، تاركًا أطفاله لمصيرهم المجهول في سورية، وما من وسيلة تواصل معهم، سوى جهاز بحجم راحة الكف، وكأن هناك لعنة أرادت لها الربة أثينا أن تحل على السوريين أينما ولوا وجوههم.

من يصغي لحكايات الضحايا، ويمعن في مدلولات المشاهد التي قدمها بوردينغ يدرك أنهم في غربتهم، ليسوا إلا أناساً رمت بهم الأقدار كيفما اتفق، تاركة النيران تلتهم أرواحهم وخيامهم، وما بقي لهم من أدوات بسيطة، كانوا يعتمدون عليه لطهو وجبة عشاء بالكاد تغنيهم من جوع وحرمان.                                                                                          

هو صوت الضحايا ذاك الذي يطرق آذاننا في فيلم بوردينغ، فنخالهم يطرحون أسئلة، عن معنى ضمير الإنسانية، ومعنى قيم المدنية والديمقراطية، لتأتي الأجوبة محفورة على تعابير وجوههم الملطخة بهول الصدمة والفاجعة، كما بدت آثار “الشحار” والدخان عقب احتراق الخيم في لبنان على وجوه النساء والأطفال.