icon
التغطية الحية

 دولة المواطنة وتاريخ مخاضها العسير في المشرق العربي

2023.05.26 | 15:19 دمشق

آخر تحديث: 26.05.2023 | 15:19 دمشق

مواطنة
+A
حجم الخط
-A

عرف المشرق عبر التاريخ محاولة إقامة دولة المواطنة في مرحلة مبكرة عندما رحب الأمراء الدروز بقدوم الكاثوليك الموارنة من سهول سوريا الوسطى إلى جبل لبنان الذي عرف مشروعا حداثيا، فتح الطريق نحو التعددية اللبنانية. ففي أثناء حكم فخر الدين المعني الثاني (1590- 1634) تمتع الجميع بالمساواة وبحرية المعتقد[1]. وانفتح لبنان نحو العالم الخارجي، حيث عرف نهضة وازدهارا في مختلف مجالات الحياة.

تجاوزت سيطرة فخر الدين المعني الثاني الجبال اللبنانية، حيث امتدت مناطق نفوذه من يافا إلى طرابلس لتصل إلى وسط سوريا، وشكلت قوة أقلقت السلطنة العثمانية. وصلت السيطرة في سنوات حكمه الأخيرة إلى طوروس شمالا والعريش وخليج العقبة جنوبا، حيث تمكن من توحيد إمارات الساحل الشامي.

استمرت هذه الخصوصية اللبنانية في التسامح والمساواة بين الجميع، مهما اختلفت معتقداتهم الدينية أو المذهبية. كما تم تأكيد احترام الحريات، خاصة حرية المعتقد، خصوصا في مرحلة حكم الأمير بشير الشهابي الثاني (1788 ـ 1840). وكذلك عرفت الإمارة ازدهارا اقتصاديا في ميدان الزراعة وازدهرت التجارة وتطور التعليم والثقافة.

حرية المعتقد

 تستحق هذه المرحلة دراسات مفصلة، إذ أفضى الانفتاح والحرية والمساواة إلى بلورة مجتمع علماني بالمفهوم الحديث. حيث عرف هذا المجتمع احداثا ذات دلالات سياسية واجتماعية ودينية مهمة. كان من المعروف تغيير الدين أو المذهب، باعتناق الإسلام دين الأكثرية، للتخلص من كل ما كان يترتب على أهل الذمة من التزامات. وكان من المستحيل أن يحدث العكس، أي التحول من الإسلام إلى المسيحية. في القرن الثامن عشر، عرف لبنان تحول آل الشهابي، والذين يعودون بأصولهم العربية إلى قريش، من الإسلام إلى المسيحية، ويعد يوسف الشهابي أول أمير ماروني يحكم لبنان في عام 1771 وكانت سابقة في تاريخ المشرق، تحول الحكام إلى دين محكوميهم. كما أن عائلة أبي اللمع الدرزية تحولت إلى المارونية في عام 1774. يشكل هذا التحول الديني، وتغيير المذهب أو المعتقد، سابقة تاريخية في المنطقة، تعبر عن فضاء الحرية التي تنعم بها المجتمع في هذه المرحلة المبكرة من حياة المجتمع في المشرق العربي.

إن تلاقي الناس حول أهداف اجتماعية اقتصادية ثقافية مشتركة، دفع إلى تجاوز المسألة الطائفية وإقامة علاقات وطنية بالمعنى الحديث، عبر احترام الحريات وترسيخ قيم العدالة والمساواة وتركيز الجهود على التنمية الاقتصادية الاجتماعية والثقافية، ما مكن لبنان من النمو والازدهار، ومن تطوير علاقات دبلوماسية وتجارية مع أوروبا، كما تمكن من التفاعل المثمر مع التطور الذي عرفته أوروبا في تلك المرحلة.

هذا التحول العابر للطوائف وما حققه من إنجازات في المساواة بين الجميع، دون النظر إلى الطائفة أو المذهب أو الدين، لم يرق للقوى الكبرى التي أجهضت هذه التجربة ووضعت حد لها.

استعصاء التغيير في دول المشرق العربي

إن تجدد ثورات الربيع العربي، خصوصا في المشرق، لبنان والعراق، يبعث الأمل في أن هذه الثورات ستصل إلى أهدافها، فهي ثورات من أجل دخول العصر، تعبر عن إدراك خطورة ما وصلت اليه مجتمعاتنا من تخلف وتمزق وضعف، وتعيد إلى الإنسان ـ المواطن مكانته، تخرجه من قوقعة الطائفة والمذهب، بحيث يتطلع لبناء دولة المواطنة في فضاء من الحرية والانفتاح على العالم. انها الفرصة التاريخية للخلاص من الاستعمال الاستعماري والسلطوي للدين وللطوائف والاثنيات، الذي أدى إلى تفكيك المجتمع والنيل من قدرته على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ومتطلبات الحياة الحديثة.

الرؤية الصحيحة للصراع بين "الأكثرية والأقليات" لا يمكن أن يكون عبر إقامة تحالف "الأقليات" ضد "الأكثرية" بل بالاستناد إلى القاعدة السوسيولوجية القائلة إن "مشكلة الأقليات هي قبل كل شيء مشكلة الأكثرية"

يرتبط التعثر والاستعصاء في تحقيق أهداف ثورات الربيع العربي عامة، وفي المشرق خاصة، بعوامل داخلية وعوامل خارجية. لم تتمكن القوى النخبوية السياسية من بلورة تصور واضح المعالم لدولة المستقبل، بعد أن عملت نظم الاستبداد على وضع المجتمع في زنزانة حديدية خانقة مانعة للتطور والتقدم ومواكبة العصر، عملت نظم الاستبداد  بأساليبها الوحشية على قمع الحريات وإلغاء السياسة، وعلى بعثرة القوى الحية في المجتمع في المنافي وفي السجون. في ظل هذا التصحر المزمن للثقافة والسياسة وغياب الحريات، كان من الصعب حشد قاعدة واسعة من المجتمع حول برنامج وطني ناجز. هذا الوضع أظهر ضعف مناعة المجتمع، خصوصا في سوريا، أمام الاختراق من قبل الفصائل المتشددة وقوى الثورة المضادة التي لاقت الاستبداد في محاولة إجهاض تطلعات الشعوب نحو الحرية والانعتاق، حيث تمكنت من اختطاف الثورة وحرفها عن أهدافها الأساسية.

إضافة إلى الوضع الداخلي المعقد، كان الدور الخارجي عاملا حاسما في استمرار الاستعصاء وعرقلة الانتقال إلى دولة المواطنة. أثبتت تجارب الربيع العربي، أن الغرب لم يقف موقفا إيجابيا داعما للحرية وحقوق الإنسان ودولة المواطنة كما يزعم، بل على العكس كان موقفه متواطئا مع الأنظمة الاستبدادية، فالمواقف الغربية تحكمها المصالح ويذهب الخطاب عن الحريات وحقوق الإنسان أدراج الرياح.

 والدليل على ذلك، تشجيع التوغل الإيراني في المشرق وممارسة القتل والتهجير والتغيير الديموغرافي في تناغم مع[2] السياسة الروسية والصهيونية العالمية، وهذا ما يؤكد ما ذهب إليه نبيل خليفة في النظر إلى الصراع على أنه صراع بين الغرب (الكاثوليكي والبروتستانتي والأرثودوكسي والفرع اليهودي إسرائيل) وبين الإسلام ببعده السني. عمل الغرب على احتواء الدور الإيراني وإغرائه بتشكيل الهلال الشيعي، عبر إقامة "تحالف الأقليات"، الا أن هذا الدور يجب أن يبقى تحت سقف المصالح الإسرائيلية والغربية، لا يسمح له بتجاوز هذه المصالح.

ما يهم الغرب والشرق البوتيني هو التوسع في السيطرة على الموارد وعلى البشر والمحافظة على الكيان الإسرائيلي والعمل على دمجه في المنطقة، كي لا يبقى جسما غريبا عنها، يعيش رعبا دائما وخوفا من الغرق في الديموغرافيا العربية. فمواقف القوى المهيمنة تتمحور حول هاتين المسالتين، أما الحديث عن حقوق الإنسان ودولة المواطنة يبقى بلا معنى، يسقط في أول امتحان أمام المصالح، في منطقة ذات أهمية استثنائية غنية بالثروات وتتمتع بموقع جيو استراتيجي فريد.  

إن الصمت الدولي عن المجازر والتجويع وحصار المدن واستخدام الأسلحة المحرمة ضد المدنيين والتهجير الممنهج للسوريين، لا يمكن فهمه إلا في إطار هذا الهدف الغربي الصهيوني في إقامة دويلات "تحالف الأقليات" تحيط بإسرائيل وتسهل دمجها. فمن وجهة نظر نبيل خليفة، لا بد من اضعاف المد الإسلاموي، بجناحيه السني والشيعي، والعمل على إيجاد حل جيو استراتيجي، يسمح بدمج إسرائيل بعد الاعتراف بها لتتحول إلى "جسم طبيعي" في المنطقة[3].

ليس أمام الغرب سوى هذا المكان سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب، لاختراق الكتلة العربية السنية جغرافيا وديموغرافيا وعقائديا لاقتلاع النفوذ السني  العربي "حكاما وأنظمة وهوية وانتماء"[4] واستبداله بكانتونات تحالف الأقليات، في منطقة يتجاوز عدد الأقليات فيها 59 أقلية، هو المكان الأنسب لإقامة توازن ديمغرافي بين العرب السنة والأقليات، لإحداث تغيير جذري في المعادلة الجيوبوليتيكية لمصلحة الغرب وإسرائيل. لن ينسى الغرب أن البحر الأبيض المتوسط بقي لمدة ألف عام بحيرة غربية، تحت النفوذ اليوناني الروماني. لم يقبل السيطرة العربية الإسلامية على ذراعي المتوسط (الشرقي والجنوبي) التي بدأت منذ القرن السابع الميلادي، ولا زالت مستمرة إلى اليوم. بالرغم من الحروب الصليبية في القرون الوسطى والحروب الاستعمارية في العصر الحديث واختلال موازين القوة، لم يتمكن الغرب من تغيير هذه المعادلة.  هذه اللحظة الذهبية التي يجب اقتناصها للنجاح في كسر المعادلة القائمة واستعادة السيطرة على الذراع الشرقي للمتوسط، ولو كان ذلك على حساب مستقبل شعوب المشرق التي تعيش ظروفا استثنائية وتتعرض لكل أنواع الذل والانكسار وتحطيم مقومات الاجتماع البشري.

كيف يمكن الخروج من هذا المأزق الذي يعيشه المشرق العربي؟ للإجابة عن هذا السؤال الكبير، لا بد من إعمال الفكر وقراءة الواقع الدولي ومعرفة موازين القوى وبلورة استراتيجية واضحة المعالم يتبناها المجتمع بأكثريته. إذا كان هذا هو المشروع الغربي الإسرائيلي الروسي، فما هو مشروع الأكثرية العربية؟ في الواقع، لا يوجد مثل هذا المشروع. يصعب الخروج من النفق الا عبر بلورة مشروع حداثي لدولة المواطنة، دولة علمانية ديمقراطية لجميع أبنائها، تعمل على اسعادهم وتحقيق أهدافهم، تدخلهم عالم العصر وتحاول اللحاق بركب الحضارة الإنسانية.

ان الرؤية الصحيحة لهذا الصراع، بين "الأكثرية والأقليات" لا يمكن أن يكون عبر إقامة تحالف "الأقليات" ضد "الأكثرية" بل بالاستناد إلى القاعدة السوسيولوجية القائلة إن "مشكلة الأقليات هي قبل كل شيء مشكلة الأكثرية"[5] كما عبر عن ذلك المفكر السوري ياسين الحافظ. فالحل لا يكون إلا بين جميع القوى المجتمعية الأكثرية والأقلية، فالحل عند الأكثرية العربية السنية، لا تحيزا لها، ولكن لأن الحقيقة السوسيولوجية هي كذلك هي الأكثرية، ولو كانت الشيعة أكثرية لقلنا أن الحل حينئذ سيكون عندها. "السنة" في المشرق ليست طائفة، انها الأمة، استهدافها يعني استهداف المجتمع برمته بأكثرياته واقلياته، انها شبكة الأمان المجتمعي. "السنية" العربية هي المرشحة لاجتراح الحل وتقديم الأفكار، ليست الأفكار التعصبية التكفيرية، بل العصرية الحداثية الطليعية التي يمثلها مفكرون سنة وشيعة ومسيحيون وأكراد في تشاركية مع جميع شرائح المجتمع في مشروع الدولة الوطنية، الدولة العلمانية الديمقراطية.

من الخطأ الفادح أن ينظر إلى أن العلمانية على أنها مناهضة للدين أو أن يتم ربطها بالإلحاد، هذا الخطأ أصبح شائعا، حتى أصاب بعض النخب الثقافية والسياسية. على العكس من هذا الاعتقاد الخاطئ، تعد حرية الاعتقاد اهم ركائز العلمانية، مثل حرية التعبير وحرية التفكير، لكل انسان حق الاعتقاد وممارسة طقوس العبادة، طالما لا تتعارض مع حرية الآخرين. تقف الدولة العلمانية الديمقراطية على مسافة واحدة من جميع الأديان والمعتقدات، تتعامل مع أفراد المجتمع كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات أمام القانون، مهما اختلفت أديانهم ومعتقداتهم وأفكارهم.  تعمل على حماية مصالح المجتمع وتحقيق أهدافه في ضوء المعطيات الدولية والمحلية، في استراتيجية فاعلة مناسبة للعصر تقوم على التعددية وحقوق الإنسان.  لا يمكن الخروج من هذا المأزق التاريخي الا عبر بناء الدولة الوطنية، على أسس علمانية حديثة، تقوم على عقد اجتماعي وعلى المساواة والعدالة وضمان الحقوق الأساسية للبشر، دولة الدستور والحقوق والمواطنة.

بلورة مشروع وطني حداثي هو عمل النخبة المجتمعية، يحدد الموقف من الدولة المعاصرة ومن الإنسان والآخر والتعددية، وخصوصا الديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان، تحدد معنى الأمة والسلطة وفلسفة الحكم، ومعنى الشرعية والموقف من الأقليات ومن القضايا العربية والدولية ومستقبل الشرق الأوسط ودولة المواطنة وحرية الضمير للجميع والتميز بالاعتدال والوسطية. في غياب مثل هذا المشروع الحداثي، يبقى الباب مفتوحا لإطلاق آراء التعصب والتكفير باسم الأكثرية "السنة"، وهذا ما تريده وتسعى اليه القوة التي تستهدفهم، لأنه المدخل لشيطنتهم في نظر الغرب واتهامهم بالإرهاب.

إقامة دولة المواطنة دولة علمانية ديمقراطية، يسحب البساط من القوى الدولية باستخدام المسألة الطائفية لانهاك المجتمعات واشغالها عن تحقيق التقدم والبناء والازدهار، ويسحبه من يد الأنظمة الاستبدادية التي اعتمدت، كالاستعمار، سياسة "فرق تسد"[6] لإحكام السيطرة على مجتمعاتها.

 


[1] -  ابو نهرا جوزيف  (2013)  المسيحيون وهاجس الحرية في العهد العثماني، المؤتمر الدولي  24 – 26 كانون الثاني 2013 : خطاب الجماعات المسيحية في الشرق الأدنى في زمن التحولات ، مركز الشرق المسيحي للبحوث والمنشورات  ،  جامعة القديس يوسف – لبنان ص 29ـ33.
[2] نبيل خليفة، استهداف أهل السنة، مركز بيبلوس للدراسات، 2014، جبيل لبنان، ص 23
  [3] ـ نبيل خليفة، مرجع سابق، ص 24
[4] ـ  نبيل خليفة،  مرجع سابق ص 26
[5]  ـ نبيل خليفة ،   """"   "" ص 36
[6] ـ فايز القنطار، الهوية الوطنية والمسألة الطائفية،  مجلة رواق ميسلون، كانون ثاني 2021