icon
التغطية الحية

 الظاهرة السيميائية في أدب "رسائل الشتات".. بيسان عدوان نموذجاً

2022.07.24 | 22:47 دمشق

شتتاات
+A
حجم الخط
-A

مع العصر الحديث، توجّه الإنسان نحو المادّة، يُخضعها للتجربة ويراقبها ثمّ يستنتج علماً. وعبر "المادّة والعقل" حاول إعادة تعريف الحقيقة، حتّى جمع تعريفاته تلك فظهرت "نظريّة المعرفة". والأمّة التي لا تمتلك نظريّة معرفيّة فإنّها لا تمتلك حكاية كبرى عن الكون والطبيعة والتاريخ والسياسة. بل تعي وتنتج فنّا ومعارف تبعاً لنظريّة أمّة أخرى، وربّما يستند القائلون بمبدأ الهويّة الحضاريّة في تعبيرهم عن (الاحتلال الثقافي) إلى مثل هذا التوجّه.

غير أنّ حصر المعرفة الحديثة بالمادّة أفضى إلى إسقاط الاعتراف بطرق المعرفة القديمة،  إلى أن عاد العالَم الحديث مع فلاسفة مثل برغسون (ت 1941) إلى الاهتمام بـ "الحدس" كأحد مصادر المعرفة. أمّا السيميائيّة، ابنة الفلسفة الماديّة، فهي: قصر غاية التلقي على دراسة العلامات في النص الأدبي استنادا إلى أنّ العلاقة بين الدّال (العلامة) والمدلول (الرسالة) علاقة اعتباطيّة، في حين أن منهجاً شرقيّاً عريقاً كالمنهج الصوفي الذي يعتمد "البصيرة" كأداة لمعرفة الإشارات الإلهيّة لا يرى بأنّ العلاقة بين الدّال وبين المدلول علاقة اعتباطيّة، كما أنّه لا ينتمي إلى الفلسفة الماديّة بطبيعة الحال، بل الإيمانيّة.

وسنحاول هنا المرور على الظاهرة "السيميائية" في مؤلَّف بيسان عدوان "رسائل الشتات، سرديّة المنفى والوباء" لا باعتبار العلامات السيميائيّة وسيلتنا لمعرفة حقيقة ما تركته لنا الكاتبة بين ثنايا نصوصها فقط، بل لزعمنا أن "السيميائيّة" ربّما كانت أقرب المناهج لذهنيّة المبدعة ذاتها وهي تقرأ "إشارات" واقعها وتعيد تدوين ذلك الواقع بلغة أدبيّة.

تنتمي "رسائل الشتات" كجنس أدبي إلى "أدب الرسائل"، إذ يتألّف من عشرين رسالة كتبتها المؤلّفة إلى جهة ما، مع التذكير بأنه لن ينكشف سرّ تلك الجهة حتّى الرسالة الأخيرة.

تناولت الرسائل المشكلات التي يمكن أن تعانيها فلسطينيّة من الجيل الثالث للّجوء -بعد جيلين لاجئين- في بلد ثالث؛ بعد تهجير أوّل من فلسطين إلى مصر 1948، وترحيل ثانٍ من مصر إلى تركيا عام 2020 والذي ترافق مع مضاعفات تفشي وباء "كورونا".

سوى القليل من "المونولوج" فإنّ اللغة الأدبيّة قلّ فيها الحوار لصالح السرد الذي تخلّلتْ به الكاتبة جغرافيا ساحل المتوسط (مصر، فلسطين، سوريا، تركيا) ومرّتْ في كل رسالة، تقريباً، على بلدة أو مدينة أو حيّ  فحضر التاريخ والميثولوجيا واختلط الواقع بالخيال، والأمل بالانكسار... فيما كانت البوصلة تبحث دائما عن فلسطين.

الزمن الواقعي لكتابة الرسائل يعود إلى عامي (2020 و2021) أما زمن السرد فيشتمل على ميثولوجيا وعلى إحالات تاريخيّة وأخرى معاصرة. وفي سرديّتها، وخلال كلّ رسالة منفصلة، غالباً ما كانت الكاتبة تتكئ على شخصيّة تاريخيّة (جلال الدين الرومي، وعبدالله النديم)، أو معاصرة (أيمن صفيّة، ومريد البرغوثي)، أو على مدينة (إسطنبول، قونية، الإسكندرية، عكّا، طبريّة...)، أو أحياء داخل إسطنبول (كرتلوش، زقاق إراك...) أو على مزيج من كل ذلك، إضافة إلى الأساطير وعناصر الطبيعة؛ للكتابة إلى المرسَل إليه الذي يبدو (مذكّراً غائباً).

ككاتبة فلسطينية عانت جرّاء احتلال بلادها فلا شكّ أنّ الكتابة بحد ذاتها هي أسلوب مقاومة

أمّا عن العنوان فتقول الكاتبة: "كنت أؤرّخ لسرديّة المنفى والوباء"، ولكنّ ثمّة دلالة مضاعفة في العنوان إذ هما عنوانان: "رسائل الشّتات/ سرديّة المنفى والوباء" ربّما يشيران منذ البدء إلى التلازم بين الرسائل وبين السرد، ومضاعفة الإحسان بالشّتات مترافقاً مع النفي والوباء. في حين أن الرسائل العشرين معنونة بأسماء الأرقام (الأولى، الثانية... التاسعة عشر)، ثم الرسالة رقم (صفر)، التي تشي ربّما بالتتابع النمطي حيث لا هويّة كبرى مهمّة، بـ الحكاية في التفاصيل، حتّى يعيدنا التتابع إلى ما قبل البداية؛ إلى (0).

لمحاولة معرفة ما إذا كان ثمّة رمزيّة مقصودة للرسالة الأخيرة سنحاول تتبع أيّة إشارة تركتها الكاتبة. إذ تذكر في إحدى رسائلها حدثاً مهمّاً (تسلّلت إلى فلسطين سرّاً)، أمّا دافعها إلى دخول فلسطين فكان: لاختبار حكاية جدّتها عن البلاد، وصنع حكاية جديدة. تقول: "متعبة أنا من الأشياء لمتاحة لا المرغوبة".

ككاتبة فلسطينية عانت جرّاء احتلال بلادها فلا شكّ أنّ الكتابة بحد ذاتها هي أسلوب مقاومة. تقول: "سأظل أكتب حتّى تعود الحكايات إلى البلاد" إلا أن مفردة "حكاية" قد يكون له بعد ثقافي متعلّق بموقف الكاتبة من الحكايات الثقافيّة الكبرى تلك التي أنتجها (العقل) والتي لا تُبشّر بالعودة، ما ترك أثراً بالغاً على وعي الكاتبة وهي تحاول صنع حكاية تتجاوز قراءة الجيل الخاسر "تعب الجدّات من طول الأمل" كما تتجاوز أزمة العقل. فأخذت تقرأ العلامات، مثل تلك التي لمحتها وهي تتمشّى على شاطئ عكّا. تقول: "علمتُ أني سأرجع، لأنّ موجها قبّل قدمَي".

حيث لم تعتمد المعرفة (علمتُ) على دلالة لغوية ناشئة من تركيب الجمل، بل من قراءة إيمانيّة لعلاقة ما بين "البحر والشاطئ والقدمين" وبين "العودة" وهذه وإن كانت علاقة سيميائيّة تحمل طابعاً إشاريّاً إلّا أن الباعث على تفسير الرسالة بهذا الإصرار أقرب ما يكون إلى إيمان الصوفي.

"مفتاح البيت الفلسطيني" حاضر أيضا في الرسائل ليرمز إلى الأمل بالعودة، ولا شكّ أن وسيلة الفلسطيني في إرسال الرسالة، ووسيلتنا إلى قراءة العلامة هي السيمياء من جديد.

وقد تعمد الكاتبة إلى رمز تاريخي لتنتج منه حكاية أخرى تناسبها كما فعلت مع "جلال الدين الرومي" اللاجئ الذي انتصر على لجوئه وحقّق "حكايته" حتّى باتت مفخرة للسكّان الأصليين في "قونيا".

 وعلى هذه الطريقة في التقاط المعرفة تستمر الكاتبة اللاجئة في قراءة ما يليها باعتباره علامات تتضمّن رسائل ممكنة تتقاطع مع سيرة ذاتيّة لفلسطينيّة شاركت في ثورة مصر، وهُزِمتْ الثورة، فرُحّلتْ إلى إسطنبول التي تضمّ "مقبرة النديم"، واسمها عائد إلى ثائر مصري كان قد شارك في ثورة "عُرابي" وخسر ثورته أيضا، فلجأ النديم إلى يافا ثم إلى إسطنبول التي لم تجد "الكاتبة"  فيها شاهدة لقبر النديم" وتلك إشارة سيّئة!

وفي الرسالة السابعة عشر تستحضر "مريد البرغوثي" وتقتبس من شعره ما يشير إلى القلق الوجودي المشترك، وارتباط هذا القلق بالسؤال عن العلامات:

"هل كل هذا الموت يخلو من قيامة؟

وهل المُرجّى ضاع ضيعة خاتم في التّربِ ..أم أنّا سترشِدُنا علامة؟".

أمّا أولى تلك الإشارات التي قرأتها بيسان كعلامة متعلّقة بوجودها، وباسمها "بيسان"، نجدها في الرسالة الأخيرة حيث تقول:

"نذر أبي، في سجون الاحتلال، إنْ رُزِق بفتاة ستكون مدينة، وإن جاء بصبي سيُطلِق عليه أيلول... كنتُ أنا المدينة وكان ميلادي في أيلول. أورثني دون أن يشعر كل ثقل المنفى والحرب".

حاولنا في هذا الحيّز الضيق الإشارة إلى القلق الإبداعي الذي وشى لنا عن أزمة الكاتبة مع الحكايات الكبرى (نظريّة المعرفة) ودفعها إلى الرغبة في صنع حكايتها، فتداخلت العلامات الماديّة السيميائيّة مع صوفيّة الاعتقاد وحتميته لدى الكاتبة التي تقول في إحدى رسائلها: "كل ما عليك فعله هو الانتباه. تأتي العِبَر دوماً عندما تكون على استعداد وإذا تمكّنت من قراءة الإشارات سوف تتعلّم". وحسبنا إن أثرنا رغبة القارئ بمزيد من الاطّلاع على كتاب "رسائل الشّتات، سرديّة المنفى والوباء" للكاتبة بيسان عدوان، الصادر عن دار ابن رشد في إسطنبول 2021.