هل تنجح تركيا في الوساطة بين روسيا وأوكرانيا؟

2022.03.10 | 05:20 دمشق

ukraine-reuters.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا حديث يشغل العالم من أقصاه إلى أقصاه هذه الأيام سوى متابعة تفاصيل الحرب الدائرة في أوكرانيا واستمرار العمليات العسكرية الروسية على أكبر دولة في أوروبا، من حيث المساحة "بعد روسيا"، وما خلفته من دمار واسع وتشريد مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين إلى دول الجوار والعالم (تجاوز عددهم مليوني لاجئ حتى الآن)، مع ختام الأسبوع الثاني من الحرب الروسية على كييف الراغبة في تولية وجهها شطر الغرب، والانضمام إلى تكتلاته السياسية "الاتحاد الأوروبي"، والعسكرية "حلف الناتو".

لن أخوض في أسباب الحرب الدائرة ومسوغاتها ومبرراتها، فذاك شأن أشبع بحثا وتقصيا وبثا للتصريحات الرسمية، واهتمام العالم بأسره بات موجها لإنهاء الحرب وتداعياتها الاقتصادية والعسكرية والإنسانية على أوكرانيا أولا، وأوروبا والعالم بدرجة لاحقة، لا سيما مع التضخم المتزايد في أسعار المواد الغذائية والقمح تحديدا، والارتفاع المستمر في أسعار الطاقة من نفط وغاز، وتأثر الاقتصاد الروسي وكل الاقتصادات العالمية بالعقوبات الغربية على موسكو بعد قرارها غزو روسيا.

فرص الوساطة لوقف الحرب الدائرة في شتاء كييف القارس، وتأمين حل مُرضٍ للأطراف المتورطة أو الداعمة لأحد الطرفين، كان ولا يزال الهمّ الشاغل للجميع، مع تقدم إسرائيل والسعودية والصين وتركيا بعروضها الدبلوماسية لاستضافة طرفي الصراع المباشرين "روسيا وأوكرانيا" أو حلحلة أبعاد الصراع الجيو- استراتيجي بين روسيا من جهة، وحلف الناتو وأوروبا من جهة أخرى، لكن السؤال الأهم وربما تكون الإجابة عنه مجنبة العالم بأسره حربا عالمية ثالثة "ربما تكون نووية" لا قدَّر الله، يتمثل في تحديد الجهة التي يمكنها أن توصل العالم برمته إلى بر الأمان، يعترف لها لاحقا بفضل الإبقاء على السلالة البشرية "ناجية" من أتون حربٍ كونية نووية.

القارئ لملفات المرشحين للوساطة بين موسكو وكييف، يلحظ حضور المصالح الذاتية للدول المبادرة للوساطة بين طرفي الصراع، فالمملكة العربية السعودية، وعلى الرغم من نفوذها الإقليمي الواسع، لا تمتلك من النفوذ السياسي والاقتصادي على موسكو وكييف ما يرشحها للعب هذا الدور، فضلا عن حضور مصلحتها المباشرة في تحقيق السلام لتأمين استقرار أسعار إمدادات الطاقة من نفط وغاز إلى العالم المضطرب بفعل الحرب الأوكرانية.

القارئ لملفات المرشحين للوساطة بين موسكو وكييف، يلحظ حضور المصالح الذاتية للدول المبادرة للوساطة بين طرفي الصراع

أما إسرائيل، التي لطالما تباهت بعلاقاتها بكلا الطرفين، وحضورها على مستوى العلاقات الثنائية مع موسكو وكييف، فتبدو علاقاتها الغربية وميلها إلى معسكره حائلا دون قيامها بهذه المهمة، على الرغم من حضور وزنها فيما يتعلق بالجاليات اليهودية في أوكرانيا، ووجود أكثر من مليون ناطق باللغة الروسية بين صفوف ناخبيها، لكن محاولات تل أبيب استغلال الأوضاع في أوكرانيا لصالح تهجير مزيد من الأوكرانيين اليهود البالغ عددهم بين 120- 150 ألف شخص، والاتهامات المتصاعدة من كييف بمحاولة استغلال الجرح الأوكراني للتكسب منه، يفسر فشل رحلات رئيس الوزراء الإسرائيلي المكوكية إلى موسكو وبرلين، واتصالات بينيت بزيلينسكي الفاشلة في إقناع الطرفين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات.

أمّا بكين، ورغم كونها البلد الأكثر وزنا على الساحة الدولية من بين الدول المبادرة، وصاحبة قرار حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن، وواحدة من أكبر الاقتصادات في العالم، إن لم يكن أكبرها حاليا على الإطلاق، فتشوب وساطتها مخاوف وشكوك المعسكر الغربي حول مدى نزاهتها وحيادها في الملف الأوكراني، لا سيما أن مواقفها كانت ولا تزال تحاول إمساك العصا من المنتصف وتدعو للحوار، رغم زيارة الرئيس الروسي إلى بكين قبل بدء الحرب في أوكرانيا بأيام قليلة، وما يشاع عن إبلاغها بالحرب وتحالفها الاستراتيجي مع موسكو في مواجهة النفوذ الغربي، ورغبتها في تغيير قواعد اللعبة الدولية وتوازناتها لصالحها ولصالح موسكو.

الطرف الأخير الذي يستحق التوقف أمام مبادرته مليّا، هو أنقرة، فقبل بدء الحرب في أوكرانيا بأسابيع عرضت أنقرة لعب دور الوسيط بين موسكو وكييف، إلا أن هذه الدعوة لم تلق أي استجابة، على الرغم من ترحيب الطرفين بها. وبعدما بدأت الحرب وتشابكت تفاصيل المشهدين العسكري والسياسي إلى حدٍ بات من الصعب استشراف مآلاته، تعيد أنقرة الدعوة ذاتها، على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان من جهة، ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو من جهة أخرى. وفي بيان صدر عن مكتبه، بعد مكالمة هاتفية استمرت ساعة بين الرئيسين، قالت الرئاسة التركية إن أردوغان أبلغ بوتين استعداد أنقرة للمساهمة في التوصل إلى حل سلمي للصراع، وإن وقف إطلاق النار سيخفف دواعي القلق بشأن الوضع الإنساني.

منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا ظلت أنقرة في حالة تنسيق مع الغرب وحلف شمال الأطلسي، لكنها في الوقت ذاته لم تغامر بالمخاطرة في علاقاتها مع روسيا

ومنذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا قبل نحو أسبوعين، ظلت أنقرة في حالة تنسيق مع الغرب وحلف شمال الأطلسي، لكنها في الوقت ذاته لم تغامر بالمخاطرة في علاقاتها مع روسيا، من خلال إبداء أي نوع من الاصطفاف الكامل مع أوكرانيا. كما طبقت أنقرة اتفاقية "مونترو" ومنعت مزيداً من السفن الروسية من العبور إلى البحر الأسود، لكنها بالمقابل قالت إنها لا تنوي فرض عقوبات على موسكو، ولن تغلق مجالها الجوي أمام طائراتها. وكان أوضح تصريح للرئيس التركي يعبّر فيه عن سياسة بلاده إزاء ما يجري في أوكرانيا يتمثل في قوله: "لن نتنازل عن مصالحنا الوطنية مع مراعاة التوازنات الإقليمية والعالمية، ولذلك نقول إننا لن نتخلى لا عن أوكرانيا ولا عن روسيا".

أما وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو فقد أعلن قبل أيام عن دعوة نظيريه الروسي والأوكراني من أجل حضور منتدى أنطاليا الدبلوماسي، والذي سيعقد في 11 من آذار/ مارس الجاري، في وقت أكد فيه وزير الدفاع، خلوصي آكار، دعم بلاده لهدنة بين روسيا وأوكرانيا.

تمتلك تركيا علاقات استراتيجية وسياسية واقتصادية بكل من كييف وموسكو، ومواقفها المعلنة حتى الآن تمسك بالعصا من المنتصف، وتؤيد التوصل إلى حل سلمي تفاوضي للأزمة في أوكرانيا، وبطبيعة الحال فإن البلد الأكثر تضررا مما يجري حاليا بعد روسيا وأوكرانيا هي تركيا بحكم القرب الجغرافي، والعلاقات المميزة لأنقرة بطرفي النزاع المباشرين، فضلا عن امتلاكها لأوراق نفوذ كبيرة لدى كلا الطرفين ما يؤهّلها لاستثمار علاقاتها السياسية التي سعت إلى بنائها مع روسيا وأوكرانيا منذ سنوات طويلة، لوقف نزيف الدم الحاصل بين "الإخوة الأعداء"، يضاف إلى ذلك كون الحرب بين موسكو وكييف مسألة أمن قومي لأنقرة، فهي وإن كانت تسيطر على المضائق الواصلة بين البحرين الأسود والمتوسط، لكن القرب الجغرافي لمسرح الأحداث يهدد أمنها القومي بشكل مباشر، وعليه، فإنه يمكن تفهم مدى حرص أنقرة على تسوية الخلاف بين الطرفين، ومدى قدرتها على تغليب التوافق على المصالح عندما تنضج ظروف الحل السياسي بين الطرفين.

فهل يكون اجتماع أنطاليا مقدمة لحل الأزمة الأوكرانية؟ وهل تنجح تركيا فيما عجز عنه الآخرون حتى الآن، وتجنب العالم بأسره حربا عالمية قد لا تبقي ولا تذر؟ كل المؤشرات والدلائل تؤكد قدرة تركيا على ذلك عندما تنضج ظروف الحل، ويقتنع الطرفان باحتواء الصراع بينهما وحصره بعيدا عمن يحاول صبّ الزيت على النار في الأزمة الراهنة.