مأساة أطفال داعش.. التربية على القهر في مخيم الهول

2022.06.25 | 06:39 دمشق

merlin_152767029_9af0f2bc-6578-4f16-9755-739b720a15c4-superjumbo.jpg
+A
حجم الخط
-A

ليست حديثة ظاهرة المقاتلين الذين يرتحلون إلى أماكن النزاعات أو الثورات، كما يخيل إلى من يقرأ تاريخ الحروب والنزاعات قراءة سريعة، وهي ليست خاصة بالجهادية الإسلامية، كما جرت العادة في العقود الماضية، فحقائق التاريخ تقول: إن ظاهرة الجهادي الذي يرتحل دفاعا عن دينه ومبدئه هي الأصغر عمرا، قياسا باليساريين والشيوعيين الذين رأينا أعدادا كبيرة منهم تنتقل في القرن الماضي من الثورة الإسبانية إلى كوبا والجزائر ولبنان...إلخ.

ظاهرة الجهادي الإسلامي التي بدأت في ثمانينيات القرن المنصرم هي بشكل ما الأخت غير الشقيقة لظاهرة الثائر الماركسي. إن أسامة بن لادن هو بمعنى ما استمرار لظاهرة تشي غيفارا، من زاوية أن الرجلين كانا يبحثان عن عالم أفضل، تسود فيه خلافة إسلامية لدى الأول، وتسيطر فيه ديكتاتورية البروليتاريا لدى الثاني. كان كلاهما حالما بعالمه المثالي، وإن اختلف طريقاهما أو تناقضا.

لكن الفرق بين ظاهرة الإسلامي المرتحل و"سلفه الماركسي" هو طريقة التعامل مع المقاتل بعد نهاية الحرب. في الستينيات من القرن المنصرم، وبعد انتصار حركات التحرر الوطني، منحت الدول الوليدة جنسياتها لمن أراد البقاء فيها، كما في الجزائر مثلا، أما من فضل العودة إلى بلاده فقد كان طريق العودة متاحا أمامه، ولاسيما أن أولئك المقاتلين السابقين لم يشكلوا خطرا على دولهم. الأمر نفسه ينطبق على حالة "الأفغان العرب" و"البوسنيين الشرق أوسطيين"، فقد خرج هؤلاء بموافقة ضمنية من أجهزة الاستخبارات وبتشجيع منها، وساعد على سهولة التعامل معهم بعد نهاية الحرب أنهم ذهبوا من دون أسرهم، ومعظمهم كان عازبا، وفي حالة المقاتلين من منطقة الشرق الأوسط الذين ارتحلوا إلى البوسنة، فقد حصل من تزوج منهم على الجنسية، وبعضهم استقر هناك، أو عاد بزوجته إلى بلاده.

ما يختلف فيه المقاتل الداعشي عن سلفه الأفغاني العربي، أو الشيوعي الأميركي اللاتيني، أنه "هاجر" بهدف البقاء الدائم، بهدف الاستقرار النهائي في أرض الخلافة الموعودة، وأحضر معه عائلته

على خلاف الحالات السابقة التي لم تؤد إلى حصول أزمات، لأنها جرت في ظل التوازن الذي فرضته ظروف الحرب الباردة فيما يتعلق بحركات التحرر الوطني، أو التي كانت برضا أميركي فيما يتصل بالأفغان العرب، جاء النموذج الداعشي انزياحا عن السياق المعهود، فمقاتلو داعش ينحدرون من خلفيات إسلامية موسومة بالإرهاب، قدموا في أثناء ذروة صعود بروبوغندا التنظيم، يحدوهم الأمل بإنشاء دولة الخلافة التي تبشر بها أدبيات التيارات الإسلامية. وما يختلف فيه المقاتل الداعشي عن سلفه الأفغاني العربي، أو الشيوعي الأميركي اللاتيني، أنه "هاجر" بهدف البقاء الدائم، بهدف الاستقرار النهائي في أرض الخلافة الموعودة، وأحضر معه عائلته، على خلاف أسلافه من المقاتلين المهاجرين الذين كانوا يرتحلون وحدهم، الأمر الذي سهل التعامل معهم كأفراد لاحقا.

لا يتعلق الأمر، الآن، بمقاتلي داعش الذين اختاروا طريقهم بأنفسهم، وهم أحرار فيما اختاروا، وعليهم أن يتحملوا تبعات النتائج المترتبة على اختيارهم. المشكلة التي خلفها تنظيم داعش مختلفة من حيث النوع والحجم عن مشكلات المقاتلين الذين يرتحلون إلى أماكن الحروب، إنها قضية ذات طابع إنساني، تمس حياة عشرات الآلاف من الأطفال والنساء الذين انتهى بهم المطاف في مخيمي الهول وروج في محافظة الحسكة، من دون أن يقترف أي منهم ذنبا، ولكنهم وجدوا أنفسهم يساقون إلى هذين المخيمين الرهيبين.  والحقيقة أن كلمة مخيم كلمة مخادعة في هذه الحالة، فالمخيمان لا يشبهان غيرهما من المخيمات، إنهما مركزا اعتقال ولكن دون إعلان رسمي عن ذلك.

لا شك أن كل طفل وامرأة في المخيم تربطه علاقة بأحد المقاتلين في داعش، ولكن هذا لا يسوغ احتجازهم في هذا المكان الصحراوي الرهيب، هذا إذا لم نذكر أن عددا كبيرا من ساكني المخيم هم من الأطفال الذي ذهبوا إلى تنظيم داعش بحكم التحاق آبائهم بالتنظيم، وأنهم عاشوا في مناطق سيطرة التنظيم مع آبائهم، وكثير منهم ولد في أثناء توسع التنظيم، فنصف المحتجزين في الهول تقل أعمارهم عن 12 عاما، في حين تبلغ النسبة 55 في المئة في مخيم روج. هل أضيف بأن نسبة ليست قليلة من الأطفال لا تعرف آباءها؟

وعلى الرغم من أن معظم المحتجزين في المخيمين، والذين يبلغ عددهم أكثر من 60 ألف شخص، هم من العراقيين والسوريين، فإن نسبة لا يستهان بها من المحتجزين في المخيمين من دول أخرى، إذ يوجد أكثر من11 ألف شخص يتوزعون على 59 دولة. ويبدو تعامل كثير من الدول، بما فيها الكثير من الدول الديمقراطية، مع أطفال مقاتلي التنظيم انتقاميا، بل إن الدول التي استعادت مواطنيها أو عددا منهم هي الدول التي لا تتشدق عادة بشعارات الدفاع عن حقوق الإنسان، كأوزبكستان مثلا. أما الدول الغربية التي ينتمي إليها معظم المحتجزين من غير السوريين والعراقيين، فقد اخترعت بعض الذرائع الواهية لمنع مواطنيها (الأطفال والنساء) من العودة إلى بلادهم، كالقول مثلا بعدم وجود تمثيل قنصلي لها في منطقة الحسكة، في حين أن بعض الدول اعتذرت عن عدم قبول الأطفال بسبب غياب وثائق رسمية لديهم، وهذا أمر يمكن أن يحل من خلال اختبارات الحمض النووي لو كانت تلك الدول جادة في استعادة مواطنيها.  ولم تخف دول أخرى موقفها من عدم رغبتها باستعادة مواطنيها نهائيا، كما في حالة شميمة بيجوم الفتاة البريطانية التي جردت من جنسيتها.

نحن أمام مراكز اعتقال تشبه مراكز الاعتقال التي تقوم بها الصين للإيغور، خلا أن العالم الغربي هو من يغض الطرف عن هذه الحقيقة لا لشيء إلا لأن آباء هؤلاء الأطفال هم من مقاتلي داعش أو المتعاطفين معها

 نحن ببساطة أمام تجاهل تام لمأساة أطفال يحتجزون في مراكز اعتقال لأسباب تتعلق بهوية آبائهم. أما ما تقوم به قوات قسد فهو انتهاك صارخ لمواثيق الأمم المتحدة الخاصة بالطفولة، فإضافة إلى سياسة الاعتقال المعروفة، يفصل الأطفال الذكور عن أمهاتهم حين يبلغون سن العاشرة، حيث ينقلون إلى ما تدعوه تلك القوات بمراكز إعادة التأهيل داخل المخيمين. وعلينا أن نتخيل طفلا في العاشرة من عمره معزولا عن أهله ولا يسمح له بالاتصال بالعالم الخارجي. نحن أمام مراكز اعتقال تشبه مراكز الاعتقال التي تقوم بها الصين للإيغور، خلا أن العالم الغربي هو من يغض الطرف عن هذه الحقيقة لا لشيء إلا لأن آباء هؤلاء الأطفال هم من مقاتلي داعش أو المتعاطفين معها.

ما يجري في مخيمي الهول وروج هو إجراءات عقابية، تستهدف أطفالا أبرياء، ومن الواضح أن الدول المشاركة في التحالف الدولي من أجل القضاء على داعش، ومعها قوات سوريا الديمقراطية، تسوغ عمليات الاحتجاز بوصفها وسيلة لردع هؤلاء الأطفال عن اعتناق الأفكار المتشددة، لكن تلك الدول تكرر الخطأ نفسه، فالفقر والحرمان والإذلال هي البذور الحقيقية للتطرف والعنف والإرهاب.

نشأت داعش وتوسعت بسبب الظلم والقهر والإذلال، ولا ينبغي لأحد أن يسأل بعد اليوم أين ينمو التطرف والفكر المتشدد، ففي مخيمي الهول وروج درس نموذجي على ذلك. هل من متعظ؟