قاسم سليماني وإعادة ترتيب المنطقة

2020.01.08 | 16:53 دمشق

slymany.jpg
+A
حجم الخط
-A

تضاربت الآراء وتناقضت المواقف في المجتمعات العربية حول مقتل "قاسم سليماني"، الذي لم يأت في معركة بل جاء اغتيالاً وبأيدي دولة عظمى، ما جعل ردود الفعل أكثر حدة بين السوريين والعراقيين واللبنانيين على وجه الخصوص.. فمنهم من عدّه مناضلاً ضد "الإمبريالية الأمريكية" وربيبتها الصهيونية، كما اعتاد المناضلون التقليديون تسميتها، فحزن وأظهر التفجع حدَّ النواح والبكاء وصولاً إلى الندب واللطم في حال هياج جماعي وإضمار انتقام قاس، بينما عدَّه آخرون إرهابياً كبيراً لا يختلف عن "ابن لادن" و"أبو بكر البغدادي"، بل لعله الوجه الآخر لهما، فأبدعوا في تعبيرهم عن فرحهم واستبشارهم بخير قادم فشكروا ربهم أن فرَّج هموم الثكالى وأخذ بثأر اليتامى وأراح نفوس الكثيرين، فقد تسبب القتيل في قتل أحباء لهؤلاء، فهتفوا وغنوا ورقصوا، ووزعوا الحلوى في الشوارع تعبيراً عن تحقق حلم ربما كان صعب المنال..!

إن ذلك المشهد الدرامي استدعى وقفة تأملية للغوص في خلفيات ما جرى وحقيقته! فما الذي جعل العرب يصطفون على ذلك النحو ثابتين خلف موقفين متناقضين؟ قد لا يكون ذلك غريباً عليهم، فهو واحد من سمات الضعف الإنساني الذي يحصل للأفراد والمجتمعات لدى افتقادهم شخصياتهم الأصلية أو هوياتهم، كما يقال في التعابير السياسية، فتأخذهم التبعية لتحقق لهم توازناً ما ريثما يجدون هويتهم المفقودة المعبرة عن حقيقة وجودهم وانتمائهم..!

في عودة إلى الوراء قليلاً أي إلى بداية توثيق العلاقات العربية الإيرانية وتقويتها مع بدء الثورة الإسلامية التي أعلنت أنها إلى جانب القضية الفلسطينية، وكان ذلك في أعقاب حربين خاضهما العرب ضد إسرائيل كشفت عن ضعفهم وانعدام قدرتهم، فكان تعليقهم الآمال على تلك الثورة الإسلامية وقد أُخِذ يمينهم ويسارهم بشعاراتها، فباركوها ورفعوا راياتها حتى إنَّ خالد بكداش أمين عام الحزب الشيوعي آنذاك ألقى خطاباً ذكر فيه تلك الثورة مستشهداً بالآية الرابعة من سورة القصص: "ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين"، وسرت آنذاك أيضاً نغمة خلال محاولات إعادة قراءة التراث تقول: بأن الشيعة على يسار السنة تاريخياً وراج كتاب أحمد عباس صالح "اليمين واليسار في الإسلام" وكتبٌ أخرى كثيرة، وتداعى العرب لإقامة علاقات طيبة مع إيران، وما قوّى ذلك أنَّ "آية الله الخميني" قد سلَّم مفاتيح السفارة الإسرائيلية في طهران إلى ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، والحقيقة أن المفتاح كان عربوناً إيرانياً لدخول المنطقة العربية، فقد سارت الأمور على عكس ما هو معلن تماماً.. اللهم إلا إذا استثنينا عمليات قام بها حزب الله الذي انشق عن أمل  تحت مسمى "الأمل الإسلامي" عام 1982 وفي عام 1985، أُعلن تأسيسه رسميا "بنشر خطاب مفتوح وصف فيه الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بعَدُوَّيْ الإسلام الرئيسين، ودعا إلى تدمير إسرائيل التي وصفها بأنها تحتل أراضي المسلمين". وأخذ يعمل تحت إمرة النظام الإيراني.. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية قد هُجِّرت من لبنان تحت التهديد الإسرائيلي للأنظمة العربية كافة، وبخاصة لتلك الدول المجاورة، ومنها نظام حافظ الأسد الذي أذعن لذلك، بل لعله عمل أسوأ من ذلك حفاظاً على كرسيه، وخشية من الغضب الإسرائيلي، ثم أخذت الاغتيالات في لبنان لرؤوس الحركة الوطنية اللبنانية، ومناصريها من الإعلاميين ولم تستثن وجوه الشيعة القوية غير الموالية لإيران الخمينية تماماً كما حدث في إيران ذاتها إذ عملت الثورة الإسلامية على تصفية الآلاف من جميع التيارات التي لم تنضو تحت إرادة الولي الفقيه، حتى وإن كانت مع الثورة وضد الشاه وعانت ظلم نظامه..!

وإذا كان الأمريكان، فيما بعد، ساهموا في التخلص من صدام حسين، وجاؤوا بأتباع إيران على دباباتهم فإن الإيرانيين وجدوها فرصة للانتقام ممن جرَّع "كأسَ السمِّ للخميني" في تموز 1988. (بغض النظر عن أسباب نشوب تلك الحرب)

مع مجيء الربيع العربي كان الموقف الإيراني متبايناً تجاه نهوضه في هذه الدولة العربية أو تلك

في ذلك الوقت كان النظام السوري حليفاً للإيرانيين على نحو أو آخر ولكنهم لم يكونوا قد تغلغلوا في سورية كما هو الحال بعد موت الأسد الأب ومجيء الوريث الابن إذ ازدادت حركة التشيع، وشراء الذمم، ثم جاءت عملية اغتيال رفيق الحريري الذي كان فيما بدا حجر عثرة في طريق التمدد الإيراني عبر ذراعه حزب الله في لبنان.. ومع مجيء الربيع العربي كان الموقف الإيراني متبايناً تجاه نهوضه في هذه الدولة العربية أو تلك، إذ وقفوا بقوة مع النظام السوري منذ الأيام الأولى، بل لعلهم ساهموا بتوجيهه نحو إغراق سورية بالدم، وتوريطه أكثر فأكثر.. ثم ليُدخلوا ميليشياتهم على أوسع نطاق..

كان لابد من التذكير بالماضي للإشارة إلى أن إيران لم يكن همها إسرائيل بقدر ما كان همها محيطها العربي الذي يعاني التمزق والتخلُّف واختلاف المواقف وافتقاده لحلفاء أقوياء على نطاق العالم، ولعلَّ تصادُفَ انهيار الاتحاد السوفييتي بعد صعود الثورة الإسلامية الإيرانية بعقد من السنين أسال لعاب الإيرانيين لتسريع التمدد في البلدان العربية، وهم الذين يؤمنون بتصدير ثورتهم الإسلامية غطاء يخدم مشروعهم الفارسي، ويدركون جيداً قوَّة إسرائيل وعدم قدرتهم على مواجهتها إذ هي محمية من أمريكا وبعض الدول الكبرى.. وعلى ذلك أرادت للبلاد العربية أن تكون مسرحاً للعداء الخلّبي بين إيران من جهة وإسرائيل وأمريكا من جهة أخرى، ولكن لا شيء يبقى على حاله، فعيوب الأنظمة التي جاءت في أعقاب إسقاط نظام البعث كانت صناعة أمريكية بتأييد إيراني، بدأت تظهر تحت مجهر جيل واع من الشباب وبخاصة في العراق ولبنان فالواقع الاجتماعي غدا سيئاً للغاية نتيجة استهتار الحكام بالدولة والشعب معاً وبرزوا للعيان عراة من أية رؤية وطنية فالعراق الذي كان ينعم بالاستقلال والكفاية الاجتماعية صار رهينة للأمريكان والإيرانيين على السواء، ونهب الحكام ثرواته الفائضة على نحو مفضوح، فأمواله تذهب إلى إيران تغطية لقتل السوريين حتى إن حكاية داعش في العراق كانت مرتبة من إيران وعملائها (نوري المالكي الذي أمر الجيش بالانسحاب من الموصل وترك بنكها المركزي بأمواله لداعش) وعلى ذلك قد نزلت الجماهير في خريف عام 2019 موحدة سنة وشيعة ما أرهب الحكام وأجبر رئيس الوزراء على الاستقالة وتبعه مهدداً رئيس الجمهورية ورغم قتلى المتظاهرين الذين بلغ عددهم نحو خمسمئة وخمسين متظاهراً اغتيل بعضهم، وخطف ناشطين من بينهم فعذبوا وقتلوا وكل ذنبهم أنهم يطالبون بحقوقهم ومواطنيتهم واستقلال وطنهم ويدينون الطائفية والطائفيين وقد هاجموا قاسم سليماني الذي غدا في الحقيقة القائد الأول في العراق، وذا نفوذ كبير في سورية ولبنان.. فذكره الشباب العراقيون في شعاراتهم وأهازيجهم: "قاسم يا بن سليماني، هذا عراقي مو إيراني اترك ها الكاع.."، كل ذلك وضع الحكام العراقيين في مأزق حرج، ولم يكن الخروج منه يسيراً، فكل فرد منهم ملاحق بفضائح الفساد وعمالة ما.. ولذلك جاء شعار الشباب: "شلع قلع" يعني إسقاط الجميع، وما وجدت إيران من حلٍّ غير تصدير الأزمة المؤامرة ومن غير أمريكا التي تعلَّق على مشجبها جرائم الحكام العرب، وهكذا جرى الإيعاز لقيادة الحشد الشعبي الذي لم تفلح خططه في قمع الحراك الشعبي المتزايد، للهجوم على إحدى القواعد الأمريكية ليقتل أمريكياً (مقاولاً مدنياً) فيأتي الرد الأمريكي، هذه المرة، شديد القسوة على الصعيدين السياسي والعسكري، ولتختلط الأوراق من جديد ويتنفس حكام العراق الصعداء لنجاح إيران بتخفيف الضغط عنهم، ولكن المشكلة الجوهرية قائمة ماتزال وإن أُجلت أو عُلِّقت، وربما يكون ظاهر الأوضاع حالياً في صالح إيران، لكن الأرجح أن الأمور غير مستقرة.. ويبقى القرار في يد القوى الأكبر، وهي لاشك أمريكا التي لا تريد في النهاية غير تقليم أظافر الملالي الإيرانية التي تخرمش أجساد أصدقائها، ورعاة مصالحها، وقصقصة أجنحتها كي لا تطير أبعد من حدودها.. أما البقية فسوف تتركها للشعب الإيراني الذي يعاني الفقر والقهر والقمع والتمييز وضياع ثرواته التي تهدر في حروب لا ناقة له فيها ولا جمل..

وأخيراً: لعلَّ الضربة الخلبية التي وجهتها إيران إلى قاعدة عين الأسد في العراق ليل هذا اليوم الأربعاء كردّ على مقتل سليماني، ومن خلال برودة الردّ الأمريكي الذي اكتفى حتى اللحظة بإحصاء الخسائر، ولا خسائر أصلاً، تشير إلى أن إعادة ترتيب المنطقة هو الذي تطلّب التخلّص من قاسم سليماني وباتفاق دولي.. ولعلَّ زيارة بوتين إلى دمشق وأنقرة وحديثه عن السلام يصب في الاتجاه نفسه، ما يعني أنَّ تراجع النفوذ الإيراني قد بدأ فعلاً فهو الذي يتحمل المسؤولية الأكبر فيما حدث للمنطقة خلال السنوات العشر الماضية وجلب الويلات لا لأهلها فحسب، بل امتدّ ليشكّل قلقاً دولياً تحسسه الروس والأمريكان والأوربيون معاً..!