في خسارة الأصدقاء

2020.03.09 | 23:02 دمشق

althwrt-alswryt.jpg
+A
حجم الخط
-A

تحتاج كل قضية عادلة يسعى أصحابها إلى تحقيق حلم إنساني كوني بالتحرر من قيود الاستعمار أو الاستبداد أو كليهما معا، أن تكسب تعاطف أكبر عدد من الأصدقاء الغرباء مبدئيا عن قضيتهم. أي أناس ينتمون إلى ثقافات مختلفة وبلدان بعيدة ولكنهم يتشاركون مع أصحاب القضية في المبادئ الأخلاقية وفي البحث عن تحقيق أهداف سامية.

وقد حفل التاريخ بنماذج لعبت دوراً إيجابياً للغاية في رفع صوت أصحاب القضايا العادلة والتي أجمعت التيارات الإنسانية يميناً ويساراً على تبنيها إن لم يكن كلياً، فعلى الأقل جزئياً، وبمستوى عالٍ من الوعي ومن المسؤولية ومن الالتزام. فدولياً، شكلت حرب فيتنام مفصلاً هاماً في تاريخ الغرب الحديث وأدت إلى نشوء حركات لا عنفية متعددة كما أججت العداء للإمبريالية الأميركية في بلدان أوروبا الغربية بعيداً عن الوقوع في المعادلة الصفرية القاضية بالوقوف إلى جانب الاتحاد السوفييتي المؤيد مصلحياً لتحرر فيتنام. وقد وصلت هذه الحملة إلى داخل المجتمع الأميركي نفسه مما أدى إلى تزايد الضغوط على الإدارة الأميركية ودفعها للانسحاب من العاصمة سايغون الذي أضحت فيما بعد مسماة باسم بطل تحريرها هوشي مينه، وفي هذا نزوع سلطوي ليس مكان بحثه الآن.

وعربياً، استطاعت حرب التحرير الجزائرية الحصول على الإعجاب والدعم من قبل كثير من الأوروبيين وخصوصاً من جزء لا يستهان به من الانتلجنسيا الفرنسية المنتمية إلى أحزاب اليسار. ولعب فرنسيون بارزون كالفيلسوف هنري كورييل، كما أستاذ الرياضيات موريس اودان، والاثنان دفعا حياتهما ثمناً لهذا الدعم المعنوي والمساندة العملية، دورا أساسياً في تأمين الدعم اللوجستي لقوى الثورة الجزائرية. كما حصلت القضية الفلسطينية على دعم شعبي ونخبوي مثير للانتباه أيضا قبل أن تقع عملية ميونيخ سنة 1972 والتي يعتبرها الباحثون نقطة تحول مهمة سلباً في إطار التضامن المجتمعي الغربي مع القضية الفلسطينية.

منذ بداية الثورات العربية سنة 2010، وعلى الرغم من ميل الحكومات في الديمقراطيات الغربية إلى الحفاظ على الاستقرار الذي تؤمنه الأنظمة الحاكمة المستبدة، سعت الجاليات العربية المقيمة في هذه الدول والمرتبطة بمسار هذه الثورات في بلادها الأم، إلى محاولة كسب الرأي العام الغربي لقضيتها العادلة ولنضالها المشروع من أجل "الكرامة والحرية والعدالة". وتعددت أشكال نشر الوعي والتعريف بالقضية من أعمال فنية إلى محاضرات علمية أو تحشيدية. وفي البداية، تجاوب عدد كبير من عامة الناس كما من النخبة الثقافية والسياسية لمثل هذه الحملات. وقد تراوحت أشكال التعبير عن التضامن والتعاطف من دولة لأخرى، فبعد أن حازت تونس على شبه اجماع تضامني، غاب هذا الفعل عن مسار الثورة السورية وحتى قبل تحوّلها إلى مقتلة وقبل بروز التطرف الديني كأحد عناصر الهيمنة الفعلية أو المتخيّلة على الخطاب الثوري السوري. وبالتالي، صارت عملية كسب الرأي العام الغربي أشد صعوبة. وتعاملت الجاليات السورية بمستويات متفاوتة من نجاعة الأداء لجذب اهتمام المجتمعات التي تعيش في جنباتها. وتستحق هذه المرحلة دراسة أكاديمية موسّعة وموثّقة.

وفي حمأة التخلي المتواصل من "أصدقاء" سوريا الرسميين عن ثورتها في صيغتها الدموية والتدميرية والتشريدية لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، نجد أن بعض السوريين والسوريات ينفقون الجهد والوقت، وربما المال، في اختراع طرق ووسائل تُنفّر المتعاطفين معهم أو من بقي منهم. فصار البعض يُطالب الغربيين بإعادة إنتاج سرديات عقيمة تليق بوجوه إعلامية "ثورية" فاشلة لا تمييز في خطابها بين

بعد عشر سنوات من المقتلة السورية، يتراجع عدد أصحاب الأقلام الصحفية والبحثية من الغربيين عن واجهة التعبير المباشر عن الموقف

القوى الثورية والقوى الظلامية المغتصبة للثورة. وصار البعض الآخر "يشتم" بعض الأقلام الغربية الصديقة إن هي شككت ببعض التفاصيل المتعلقة بارتباطات بعض من يدّعي السعي إلى التحرر من الاستبداد بقوى أشد استبداداً عقيدةً وممارسة. كما انهمك بعضٌ ثالثٌ في تفنيد التحليل العلمي الذي اقترفه بعض الباحثين الغربيين المنشغلين بالهم السوري والمناصرين لتحرر السوريين. والدافع إلى ذلك هو أيضا عدم مطابقة هذا التحليل في كل تفاصيله لما يرد على لسان من تنطّح للحديث باسم آلام السوريين.

بعد عشر سنوات من المقتلة السورية، يتراجع عدد أصحاب الأقلام الصحفية والبحثية من الغربيين عن واجهة التعبير المباشر عن الموقف. وهذا لا يمنعهم من الاستمرار في إبداء التضامن النقدي مع الحالة السورية والتعاطف مع الشعب الضحية دون القيادات من أية جهة انبثقت. وهذا التراجع في التعبير الصريح لا يدفع بأصحابه إلى أحضان الطرف الآخر بالتأكيد، ولا حتى إلى تغيير قناعاتهم الذاتية بمشروعية القضية التي لطالما تضامنوا معها. لكنهم بالمقابل يختارون الانزواء والصمت لما نالهم من نقد، في أحسن الأحوال، أو تشكيك في مواقفهم في أقلّها سوءاً أو إلى تهجّم لفظي يُقارب الشتيمة صار معتاداً في أفواه من يدّعي أنه "أم الصبي". وقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعية في نشر "ديمقراطي" لهذه التصريحات.

من يدّعي الخبرة الإعلامية والتحليلية في جنبات الثورة السورية يشوّه مقاصدها غالباً وذلك بتبني خطاب إعلامي يشبه خطاب من ثار أو ادعى أنه ثار عليهم. وصار للإعلام "الثوري" ووسائل التواصل "الثورية" أن ترفع من هذا وتُسقِطَ ذاك. وبذلك، يرتفع صوت الغوغاء ويصمت العاقلون من أصحاب القضية ومن المتضامنين معهم.