في تحولات الخطاب الإقليمي تجاه الثورة السّوريّة

2023.04.20 | 06:09 دمشق

في تحولات الخطاب الإقليمي تجاه الثورة السّوريّة
+A
حجم الخط
-A

يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ما معناه: يمكن لكل الكلمات أنْ تكون صادقة إذا ردّدنا تلك الكلمات بمفردنا في البرّيّة؛ ففي البرّية؛ يمكننا أن نسمّي الشجرة حصانا والحجر غيمة فلا يعترض علينا أحد؛ في حين أنْ الدلالات ذاتها ستحتاج إلى الاتفاق على صحّتها ما إن نقرر مشاركتها مع شخص آخر.

إذن فالحقيقة تقتضي وجود "آخر" يشاركنا في الاتفاق على تعيينها، ومع مرور الزمن يصبح للسياق التاريخي دوره أيضا في تعيين ما الحقيقة وما يناقضها: فقبل مئة إلى مئة وخمسين عاما كان أجدادنا رعايا الملك ما أو السلطان؛ ثم تغيّرت تلك الحقيقة مع نموذج الدولة المدنيّة الحديثة للمواطنة السّوريّة فصاروا "مواطنين" سوريّين؛ حتى استيلاء آل الأسد على الدولة السّوريّة وترسيخ "رعاية" الأبد القائد؛ فتحوّل المواطنون إلى بنات وأبناء السّيّد الرئيس!

الأمانة تقتضي أن نذكر أن قبل حكم الأسد وخلاله كان دائما ثمّة معيقات بين الإنسان والحقيقة كالإيديولوجيا مثلا؛ فالإيديولوجيا مرض نخبوي أمّا الإنسان البسيط فيمكنه -بفطرته- الشعور بالتناقض حين يظهر المجرم على الدوام: سنيّا في خطاب السلطة الشّيعيّة، أو شيعيّا في خطاب السلطة السنّية، أو عربيّا في خطاب السلطة الكردية، أو كرديّا في خطاب السّلطة العربية...إلخ

نعيش في دول تحتل قرارها السياسي نخب حاكمة ومعارضة كلّها ليس ديمقراطيّا ولا يسعى إلى الديمقراطيّة

تحرير الخطاب يعني –بشكل أو بآخر- تحرير الحقيقة والانتماء إليها كهويّة ساهمنا بصياغتها؛ ولعلّ هذا ما فعلته ثورة السّوريين في 2011 قبل سيطرة القوى الإقليميّة ثم العالميّة عليها بواسطة نخبنا المتخلّفة حقبة أو حقبتين!.

من سوء حظنا -أو من حسنه لا فرق- أنّنا في الشرق الأوسط نمتلك هويّات عريقة وأصيلة لكنّها مركّبة ومتعدّدة تنتمي إلى "هنا" و"هناك" في الآن ذاته؛ وأنّنا نعيش في دول تحتل قرارها السياسي نخب حاكمة ومعارضة كلّها ليس ديمقراطيّا ولا يسعى إلى الديمقراطيّة؛ ما يجعل خطابنا المدني، في كلّ محاولة تحرّر، قلقاً مستهدفاً وقابلاً للاستحواذ عليه وتجييره لمصالح صراع بين أنظمة "هناك" وأنظمة "هناك"!

سوريّا: هنا سوريا حيث يحكمنا الأب القائد وهناك مكان آخر ننتمي إليه عبر هويّاتنا الطبيعيّة وشبه الطبيعيّة "عرقيّا أو دينيّا" وسواء أكان نظام "هناك" ديمقراطيّا: كتركيا، أو ملكيّا: كالسعوديّة، أو خاضعا لولاية الفقيه: كإيران، أو حتّى إلى إدارة حزبيّة شموليّة في جبال قنديل؛ فإنّ هويّتنا السّياسيّة ليست "هنا" وليست "هناك" وحتّى لو أوهمَنا "هناك" بالمشترك الهويّاتي فإنّ ولوجه من بوابة ما قبل مدنيّة لا تعترف بمواطنتنا "هنا" ليس ضامنا لقبوله مساواتنا له "هناك"!.

كسوريين أيضا فإنّ كل كلمة يمكن أن نقولها ونحن نلغي وجود الآخر السّوري؛ ستكون كلمة صادقة بمنطق قبلي فاقع: تركستان؛ عربستان؛ كردستان.. رغم أنّ كل هويّة جينيّة لأحدنا تمتلك في داخلها جينات الآخرين جميعا فتعكّر علينا صدقنا!

لا يزال بعضنا يتوهّم القراءة بحسب انتمائه لـ "هناك" فيعتبر أن تحرّك السّعوديّة مثلا لإعادة بشّار الأسد إلى الجامعة العربيّة معني بمصالح العرب "هنا" أو أنّ إعادة اللاجئين وعقد مصالحات مع النّظام تحقيقا لمسار "أستانا" التركي الروسي الإيراني معني بتحقيق مصالح السنّة أو الشيعة "هنا"؛ أو حتى التنافس بين الأتراك والسعوديين وغيرهم على النّفوذ في سوريا من بوّابة "النّظام" معني بنا؛ متناسين أنّنا "هنا" بلا تمثيل سياسي لمصالحنا ولا نحن مواطنو "هناك"!

على أيّة حال؛ لقد أردنا عام 2011 حريّة وكرامة فرأت أنظمة نشترك مع شعوبها في هويّاتنا الأوّليّة أن تتدخّل للدفاع عن مصالحها: فوقفت دول مع النظام ودول مع "الثّورة" وفيما أردنا كثوّار تغيير النظام أراد "الحلفاء" الدفاع عن مصالحهم السّياسيّة!

بعد عقد من الزّمن -وكثير من دمنا- بدت الولايات المتّحدة غير مهتمّة بمصالح حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط؛ فانسحبوا شيئا فشيئا نحو المعسكر الصيني الذي يؤمّن "عدم التدخل في الشؤون الداخليّة للدول" ومن الطبيعي في هذا السّياق أن ينقلب "حلفاء الإنسان السوري" الذي كان التدخل في شؤونه نهجاً يحقق المصالح فصار "عدم التدخل" نهجاً يحقّقها؛ عليه!

في تركيا يواجه حزب العدالة والتنمية استحقاقاً سياسيّاً ويحتاج إلى كسب معركة الانتخابات المقبلة؛ فيما تستعد السعوديّة لاستحقاق سياسي أيضاً يتمثّل في توريث محمد بن سلمان؛ أمّا حريّة الإنسان السوري بل ومصير وجوده فليس شأناً سياسيّاً داخليّاً لا تركياً ولا سعوديّاً!

في نهاية زيارة وزير خارجيّة النظام إلى السعوديّة أصدر وزيرا الخارجيّة بيانا مشتركاً تستند كلماته –بخلاف ما أشار كثيرون- إلى القرار 2254؛ إذ تحدّث البيان عن "حل سياسي" لما وصفها بـ "الأزمة السورية" على أن  يحافظ  هذا الحل على: 1-  وحدة سوريا، 2- أمنها، 3- استقرارها، 4- هويتها العربية، 5- سلامة أراضيها" وبحث الجانبان "الخطوات اللازمة لتحقيق تسوية سياسية تحقق المصالحة الوطنية".

وتكرّرت هذه الكلمات "الصّادقة" في نتائج اجتماعي جدّة الأخير الذي ضم ممثلي دول الخليج ومصر والأردن والعراق -لمناقشة إمكانيّة دعوة "نظام الأسد" لحضور القمّة العربيّة المقبلة في الرياض- فاستمرّ الحديث عن "الحل السياسي" وتهيئة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى مناطقهم؛ وتعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات والإتجار بها، وضرورة دعم مؤسسات الدولة السورية، لبسط سيطرتها على أراضيها..".

التسوية السياسيّة تجري بين القوى السياسيّة الممثلة لمصالح الشّعب والمتنازعة فيما بينها لا بين الشّعب كمتّهم وبين أجهزة أمن النظام

حين تتحدث الدول عن حل ساسي وتسوية سياسية فإنّها تقول ذلك في ضوء تنافسها مع دول أخرى على النفوذ داخل سوريا ونحن بدورنا نحاول كشف التحولات وتأثيرها علينا كسوريين؛ ذلك أنّ إسقاط أولويّة "الانتقال السّياسي" التي نصّ عليها القرار الأممي 2254 ومحاولة تعويم النظام بإعادته ليشغل مقعد سوريا في الجامعة العربيّة يمنح النّظام بمفرده شرعيّة تفسير دلالات "الحل السّياسي والإرهاب والأمن والدولة والوحدة.." وهذا لن يتناقض مع مصلحة السّوريين فحسب، بل سيتناقض مع سيرورة التاريخ ومفاهيم الدولة الحديثة برأينا!

على سبيل المثال: إنّ المصالحة الوطنيّة بحسب مفاهيم الدول: تجري بين فئات ومكوّنات الشعب؛ لا بين نظام وشعب، والتسوية السياسيّة تجري بين القوى السياسيّة الممثلة لمصالح الشّعب والمتنازعة فيما بينها لا بين الشّعب كمتّهم وبين أجهزة أمن النظام؛ والكارثة هنا أنّ بعض الدول تتحدث إلى السوريين عن ضمانات بخضوعهم إلى محاكمات عادلة!

قبل ثّورة السّوريّين كان يمكن الإيمان بكل ما يقوله الزّعيم الوطني الذي يحتكر تعريف الحقيقة فقط لأنّه انتصر في معركة السّلطة؛ بعد الثورة –ورغم الهزيمة حتى الآن- فقد ولِدت مفاهيم أخرى لا تُسلّم بالحقائق المناقضة لذاتها حتى لو انتصر الزعيم الذي يقولها بصدق!

كشفت الثّورة أنّ حقيقة "الوطنيّة" مثلا لا تتكئ على الصدق فحسب فالمجرم يمكن أن يكون صادقاً أيضاً لكن "إلي بيقتل شعبو خاين" والقاتل خائن للوطن!

رغم أنّ الدول كيانات سياسيّة تبحث عن مصالحها بطبيعة الحال فإنّ التعاطف الهويّاتي الذي تبديه هذه الدولة أو تلك مع جزء من السوريين في أثناء طرح مبادرة لحل "القضيّة السّوريّة" فإنّ ذلك التعاطف يمكن وصفه في أحسن الأحوال بـ "الصدق"؛ لكن الصدق ليس كافياً لتكون المبادرة المطروحة "صحيحة" لم تغفل السياق الزمني لإرادة السوريين بوجه إجرام النظام؛ ولم تلتف على مطالب السوريين بالتحوّل إلى نظام حكم ديمقراطي؛ وإلّا لكانت تلك المبادرات -بالنسبة إلى السّوريين على الأقل- ضرباً من الكلام في البرّيّة!