في الشمال السوري.. لا يزال "فرانك" الاسم الأشهر

2023.02.28 | 14:29 دمشق

في الشمال السوري.. لا يزال "فرانك" الاسم الأشهر
+A
حجم الخط
-A

كان علينا أن نتجول يوميا في قلب المدينة التي تتلمس طريقها إلى التعافي بعد "عاصفة زلزالية" ضربت الشمال السوري، تجوالنا كان بالسيارة، المحشوة بأطفال العائلة الذين عاشوا الزلزالين، ونجوا.

الهدف هو زجهم مجددا في مواجهة الازدحام والأسواق وصوت الباعة، وخلق لقاءات مع الناس والابتعاد عن حديث الزلزال الدائر الوحيد بين الناس. باختصار تقريبهم أكثر من الحياة الطبيعية وهذه إحدى توصيات الداعمين النفسيين للعائلات لأن الأطفال يشعرون بالخوف المستمر والتوتر والقلق والكبار لا ينفكون يتداولون ما حصل وماذا سيفعلون لو حصل.

ستكون مهمة الدعم النفسي من أهم وألح المهمات المطلوبة في المنطقة، والداعمون النفسيون الاختصاصيون حاجة وضرورة وهم قلائل -كما كل شيء عدا الرعب الجديد- ولديهم لائحة مهمات طويلة جدا.

في الطريق يلتقط أحد الأطفال معنا وجها لرجل أشقر، ببشرة بيضاء تشوبها حمرة، وشعر طويل أبيض مصفر، ولحية وشارب عريض بذات اللون.. صرخ إنه "فرانك"، ضحك الجميع تقريبا إلا أنا، استغربت ردة الفعل تماما، لكنني حاولت تفسير ما حصل!

لا يشبهنا الرجل، لم أعرفه. ربما كان عاملا إغاثيا في المنطقة أو من بقايا "المهاجرين" إليها ولم يكن كما أقرانه من الغرباء.

وبينما أحاول أن أجد التفسير كان الشباب يقنعون الطفل بأن الرجل ليس "فرانك" بل صاحب فرن حلويات قريب ونازح من مدينة قريبة.. من فرانك إذاً؟

فرانك هو حقا الاسم الأشهر هنا في الشمال السوري الذي نُكب بزلزال مدمر صاعق، وآخر صنع رعبا لا يوصف..

ببساطة كان الهولندي فرانك هوغربيتس، هو مقصود الطفل، وهو ذاك المتنبئ، العالم، الفيزيائي، الخبير، الباحث الجيولوجي، الدجال، المهووس.. الذي لا يزال يشغل بتغريداته وأقواله وكتابته أكثر الناس هنا، حتى إن الأطفال باتوا يعرفون شكله جيدا، ولكم أن تتصوروا كم مرة يرونه يوميا على الهواتف أو الشاشات، فرانك هو حقا الاسم الأشهر هنا في الشمال السوري الذي نُكب بزلزال مدمر صاعق، وآخر صنع رعبا لا يوصف.. ولهذا يحاول الناس أن يفعلوا أي شيء، يمكن أن يقيهم مصير من ودعوا، وما خسروه.

ينامون في الخيام ليلا وقد أصبحت موجودة في الأماكن المفتوحة بشكل فردي، فضلا عن مخيمات الإيواء.. ينامون فيها ليلا ويواجهون الحياة نهارا ومنهم من يعود لمنزله، كأن الزلازل لا تأتي نهارا أو أنهم قادرون على مواجهتها في النهار، لكن الموت ليلا إثر الزلزال الأول رافقه عجز وإحباط وقلق وتوتر لاحق من السقف والجدران.. لا يُلامون عليه.

يتابعون الأخبار بنهم ويتنقلون بين صفحات مواقع التواصل الاجتماعي باستمرار وكثافة باحثين عن أي معلومة أو خبر فيظهر "فرانك" وعلمه الغامض وتنبؤات غريبة وربط لا علمي وغير محكم، يظهر في كل مكان. لكنه أصاب! بهذه العبارة يجادلك من يصدقونه، مع أنهم يتمنون لو لم يعرفوه أصلا هو الذي يرجمهم يوميا بتوقعات أو تنبؤات تعصف براحة بالهم النادرة، وإن لم يفعل بنفسه ستجد وسائل الإعلام تتبع أخباره وتنقل منه أو عنه، حتى يكون الترند اليومي. أكاد أجزم أن كل الناس هنا في الشمال مروا على فرانك أو فرانك مر عليهم وأن أغلبهم يتابع كل شيء عنه.

أما هذا الكم الكبير من الداتا المعقدة فهو محور أي حديث أو نقاش أو جلسة مسائية، ودافع لكثير من القرارات.

عرفت الكثير من العائلات نصبت خيامها وأفرغت بيوتها يوم 22 شباط/فبراير نتيجة ما كتبه إذ قال "يحدث نشاط زلزالي مجمع وقوي.. ومن المحتمل أن يبلغ ذروته في يوم 22"، وهؤلاء زادوا ولم ينقصوا بعد ذاك التاريخ رغم أن لا شيء حصل هنا..

لمست رعبا حقيقيا اختصرته سيدة بالقول واجهت النظام 12 عاما، خسرت كل شيء من دم ومال وتهجرت وعشت أهوالا كثيرة لكن الـ 12 عاما لا تعادل ما عشت وخسرت في دقيقة.

يمكن بسهولة الحكم على فرانك هوغربيتس ببحث بسيط وقد سلطت أغلب وسائل الإعلام الضوء عليه، وقالت جهات موثوقة أن علمه وما يدعي لا أساس له فيزيائيا أو جيولوجيا، لكن لم يستطع بعد أحد من الناجين بعد أن عاش ما عاش أن يفكر بمنطقية وعقلانية، حتى إن الحوار المنطقي بين الناس يتدهور بسرعة، فالنقاش يبدأ موضوعياً واقعياً ولا يلبث أن يتحول لانفعالات ويأخذ سياقات لا تخطر على بال، بعضها ديني وأخر مؤامراتي وتحضر عبارة لكنه أصاب!

الناس متعبون في الشمال يختلط حزنهم بعجزهم بقلة حيلتهم وضعفهم وذكرياتهم بأملهم وبخيط رفيع يربطهم بالحياة هو حواسهم التي يثقون بها!

لقد أحدثت الزلازل كثيرا في النفوس والعقول، و20 يوما ليست كافية لترميم أي شيء حتى جدران الأبنية التي صبغت بالأحمر وكتب عليها "إخلاء حتى التدعيم" تركها أصحابها تعبا. 20 يوما ليست كافية لتجف الدموع والفقد عظيم حقا وأصاب أناسا هم بالأصل بقيةُ فقدٍ سابق ومستمر وضحية نظام مجرم وعالم متخاذل،  20يوما ليست كافية لألوم من عاش عاصفة زلزالية قال العلماء بأنها قد تستمر لشهور وأن يصل عدد الزلازل إلى المئات. 

الناس متعبون في الشمال يختلط حزنهم بعجزهم بقلة حيلتهم وضعفهم وذكرياتهم بأملهم وبخيط رفيع يربطهم  بالحياة هو حواسهم التي يثقون بها!

فيصغون السمع لأي حركة، يراقبون كل شيء ويقرؤون كل ما يستطيعون قراءته ويجربون كل الوصفات ويتابعون "فرانك" وقد أصاب! وربما يصيب ثانية.

البحث في سبل النجاة همهم ورغم ضعف مصداقية وانعدام علمية ما يكتب فرانك أو سواه في حقل التنبؤ إلا أنه يعنيهم أكثر مما يكتب عن زيارات للأسد ومبادرات لإنعاش نظامه.

ستجدهم معنيين بالزلزال الآن أما زلزال نظام الأسد فله حسابات أخرى، فإن عاد حالهم لما قبل الزلزال وزالت آثاره ربما رضوا بمبادرة تعيد نظام الأسد إلى حاله.