عن كنوز المعتقلين وأهاليهم 3

2021.02.05 | 00:04 دمشق

alshbkt-alswryt-lhqwq-alansan-almtqlat-altdhyb-933x445_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

تتناول هذه الأحاديث عمليات نهب ثروات الشعب السوري من قبل العصابة الحاكمة، سواء أكان بسبب المعتقلين، أو دون سبب مباشر.

قرأت قبل مدة حكاية جميلة جداً عن امرأة من عائلة الأسد، لنصطلح على تسميتها (أم فلان).. يبدو أنها كانت غشيمة، لا تعرف أهمية أن ينتمي المرء إلى هذه السلالة العجيبة، ثم حصلت مصادفة عجيبة جعلتها تفهم اللعبة، وتغير مجرى حياتها بالكامل.

في أيام أزمة مواد البناء، في الثمانينيات، كانت أم فلان تبني لنفسها بيتاً، واحتاجت إلى عشرة أكياس إسمنت، وكانت مستودعات مؤسسة التجارة الداخلية "إنتروميتال"، يومئذ، خاوية على عروشها بسبب أزمة نقص المواد التي كانت تعاني منها البلاد.. وبالمصادفة، كانت تعبر شارعاً فيه بناء حكومي قيد الإنشاء. تقدمت من المساعد الفني المشرف على تنفيذ البناء، عرفته على نفسها، وطلبت استعارة عشرة أكياس من الإسمنت. الرجل طق عقلُه من الفرح، وكما يقول المثل (انْبَحَتْ متل قباوة عَ رغيف)، وقال لها:

- استعارة؟ مو عيب؟ خدي اللي بدك اياه بشكل نهائي.. وشو هالتواضع هاد؟ بس عشر كياس؟ خدي عشرين كيس. بركي ما كفوكي العشرة؟ وما بدنا حقهن، أنا بلاقي طريقة وبخرجهن من القيود، نحن هون خدامين الأوادم والطيبين شرواكي يا مدام.. ولو.

انتبهت المرأة الأسدية، وقتئذ، إلى أن بإمكانها أن تأخذ ما تشاء من مواد البناء من أي مشروع تنفذه دائرة حكومية، إما بالسعر الرسمي (وهو أقل بكثير من سعر السوق السوداء)، أو دون مقابل. استعملتْ نصف الأكياس التي أخذتها لإتمام بنائها، وباعت الأكياس الباقية بسعر السوق السوداء، وانبسطت من هذه اللقية على الأربع والعشرين قيراط.

اعتباراً من اليوم التالي، صارت أم فلان تركب سيارتها العتيقة، وتفتل في شوارع المدينة، وكلما شاهدت بناء حكومياً قيد الإنشاء، كانت تدخل إليه، وتعرّف على نفسها، وتستأجر شاحنة وتحملها ببضعة أسياخ من الحديد، وبضعة أكياس من الإسمنت، وكمية من الرمل والبحص والنحاتة، وتغادر المكان وبراءة الأطفال في عينيها.

انتبهت المرأة الأسدية، وقتئذ، إلى أن بإمكانها أن تأخذ ما تشاء من مواد البناء من أي مشروع تنفذه دائرة حكومية، إما بالسعر الرسمي أو دون مقابل

ولكي تتمكن أم فلان من استيعاب هذا العمل المتزايد، استأجرت مستودعاً، وصارت تضع فيه البضائع التي تأخذها من هنا وهناك، وتخزنها فترة قصيرة ريثما يأتيها طلب شراء، فتفتح مستودعها وتبيع. ولا داعي لأن نشرح لكم كيف تحسنت أمورها المادية، وفتحت حساباً في المصرف التجاري، وغيرت بيتها، واشترت سيارة دفع رباعي فول أوبش موديل سنتها، وصار عندها عدة مستودعات لأجل استيعاب الكميات المتزايدة من مواد البناء، ووظفت لديها عدداً من العمال، إضافة إلى سائق سيارتها الخاصة. وأما أهل المدينة الذين يقومون ببناء منازل جديدة، أو يرممون بيوتهم القديمة، فقد نشأ لديهم مصطلح جديد.. ففي معرض سؤال المرء من أين سيؤمن مواد البناء، يقال له:

- بتروح على مؤسسة إنتروميتال، وبتاخد معك رخصة البناء، وبتطلب حديد وشمينتو وخشب، إذا ما عطوك بتروح دغري لعند أم فلان وبتشتري طلبك!

السادة دارسو علم الاقتصاد يعرفون كيف نشأت فكرة "النقد الخَطّي"، فالتطور الكبير في المعاملات التجارية والمالية، على مستوى العالم الرأسمالي، أدى إلى تعاظم عمليات البيع والشراء والاستثمار، وأصبحت المعاملات كلها تجري دون أن يقوم أحد الأطراف بدفع نقود (بنكنوت)، إذ صار يكفي أن يسجل زيدٌ من التجار على عمرو قيمةَ ما استجرّ من مواد، وعمرو يسجل على خالدٍ ومحمود وطوني، وكله على الورق، يعني يمكن أن يبلغ حجم التبادلات التجارية ملياراً من الدولارات، وكلها تدفع بموجب شيكات وكمبيالات وتحويلات مصرفية..

بهذه الطريقة ذاتها، تقريباً، تطورت تجارة "أم فلان".. ففي البداية كانت تتسلم البحص والشمينتو والرمل والنحاتة ومواد التمديدات الصحية من مؤسسات الدولة التي تقوم بأعمال إنشائية، وتضعها في المستودعات، وتنتظر حتى يأتي الزبائن ويدفعوا ثمنها في الصندوق.. بعدها صرنا أمام ما يمكن أن نسميه "السلبطة الخطية".. فقد أغلقت أم فلان مستودعاتها بصورة نهائية، وسرحت عمال التحميل والتنزيل والتستيف وسائقي الشاحنات، فتخلصت نهائياً من القرقعة والهرهرة والتشحيط، ووظفت لديها محاسباً، ثم مجموعة من المحاسبين، يسجلون طلبات الشراء، ويقبضون ثمنها بموجب حوالات مصرفية، وتكون هي قد تسلحت بقوائم مفصلة تتضمن أسماء مشاريع العمران التي تنفذها المؤسسات ذات الطابع الاقتصادي، والدوائر الحكومية، إضافة إلى مؤسسة الإنشاءات العسكرية، والإسكان العسكري، والأشغال العسكرية، وبعض وحدات الجيش العربي السوري الباسل، وتحيل الزبون المشتري ليتسلم بضاعته مباشرة من مصدرها!

نعود الآن إلى سيرة المعتقلين، واستغلالهم من قبل جلاوزة النظام السوري.. ولعلنا الآن سندرك سبب القول بأن المعتقلين في سوريا عبارة عن (كنز من ذهب)، وهو في الأساس تعبير "مجازي"، ولكن العقول النيرة تستطيع أن تحوله إلى "حقيقة"، وأبرز مثال على ذلك عقلُ السيدة "أم فيصل" التي ذاع صيتها، في مطلع الثمانينيات.

أم فيصل، يا سادتي، امرأة طيبة القلب من قرية بسنادة، ثم انتقلت مع ولدها الضابط (الذي أصبح مديراً لسجن تدمر منذ 1980) للسكنى في قرية الهنادي، ويُقال في قرية عليّان، ولكن هذا لا يهم، المهم أنها اكتشفت فجأة أن عدداً لا يستهان به من نساء سوريا، وهن أمهات وأخوات وشقيقات وبنات سجناء بتهمة الانتساب لجماعة الإخوان المسلمين، يُحببنها حباً جماً، وأن لديهن رغبة عارمة في أن يعبرن لها عن الحب والإعجاب بالهدايا.. وهذا ما أوقعها في أزمة كبيرة، فهل يعقل أن تفتح بيتها للقشطة والجبن والسمن والدبيركة والبرغل السوادي والمكدوس؟.. أو للمراوح وساعات الحائط وخلاطات المولينكس وغسالات الأوتوماتيك؟ أي قسماً بالله لو تحولت الهنادي كلها إلى مستودعات لما اتسعت لهدايا النساء الإخوانجيات اللواتي يحببن الخالة أم فيصل! وإذا قبلت هذا النوع الغليظ من الهدايا، كيف ستبيعها وتحولها إلى أموال سائلة؟ وهل يعقل أن تمد يدها وتأخذ من النساء المعجبات بها نقوداً (بنكنوت)؟ أبداً يا إخوتي، حَدُّ الله بين أم فيصل والرشاوى النقدية والمال الحرام..

خرجت أم فيصل، بعد هذا التفكير الطويل بنتيجة تقول: إذا كان لا بد من الهدية فلتكن قطعة ذهب، هدية خفيفة ونظيفة وبنت ناس؛ وعدد قليل من الغرامات تكفي، أصلاً هي تريد أن تخدم بنات جنسها المسكينات اللواتي وسوس الشيطان في عقول أزواجهن أو أبنائهن أو أشقائهن وجعلهم يعادون السيد الرئيس.

أرسلت أم فيصل أحد الجنود الذين فرزهم المحروس فيصل لحراسة الدار إلى دكان القرية، اشترى لها دفتراً (أبو الميتين)، وصارت تكتب اسم الرجل الذي تسأل عنه المرأة التي لديها معتقل، وتقتلعها من الدفتر، وترسلها لفيصل، فإذا أتاها الجواب بأنه ما يزال حياً يرزق، ترسل له ورقة ثانية من الدفتر أبو الميتين تتضمن السماح لهذه المرأة وأولادها بزيارة سجينهم (والهدية قطعة ذهب)، وإذا أجابها بأنه غير موجود تعتذر للمرأة، لأنها لم تستطع خدمتها، والله غالب.

أجمل بند في سيرة الخالة أم فيصل أنها كانت تعتذر عن أخذ قطعة الذهب من المرأة التي لم يُعثر على السجين الخاص بها في سجن تدمر. وبهذا تكون قد قدمت لها خدمة جليلة، وببلاش، وهي أنها أعلمتها، بشكل غير مباشر، بأن المقدم فيصل قد قتل ابنَها، إما في مجزرة 1980، أو تحت التعذيب، أو من شدة الجوع والقذارة والقمل.