عن روسيا التي حافظت على الدولة والمسيحية في سوريا

2021.09.06 | 06:09 دمشق

alasd.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يكف المسؤولون الروس عن تكرار حججهم الواهية، التي يحاولون تسويقها كي يبرروا تدخلهم العسكري المباشر إلى جانب نظام الأسد منذ نهاية أيلول/ سبتمبر عام 2015، والأدهى من ذلك أنهم بدؤوا، منذ مدّة، يروّجون لتحقيق وإنجار المهام التي حاولوا تسويقها في تلك الحجج، حيث لم يتردد وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، من التبجح بأن بلاده تمكنت ليس فقط من "الحفاظ على الدولة، ولكن أيضاً على المسيحية في سوريا"، زاعماً أن سوريا "كانت مهددة باختفاء جميع المواطنين الذين يعتنقون الديانة المسيحية" فيها. ثم تمادى في زعمه بالقول "إن روسيا أوجدت الظروف المناسبة لإجراء عملية تسوية سياسية في سوريا"، لكنه استدرك لا لكي يتمعّن فيما يتشدق به، بل كي يؤكد على تماديه فيما يزعم عبر الإشارة إلى أن بلاده ليست مسؤولة عن حالة الجمود المحيطة بتلك العملية.

يحاول الساسة والعسكريون الروس الظهور بمظهر المنقذ للدولة السورية التي اختصروها بنظام الأسد، من أجل إخفاء الأسباب الحقيقة لتدخلهم العسكري في سوريا

إذاً، روسيا الخيّرة والمفعمة بالروح الإنسانية، تمكنت من الحفاظ على الدولة السورية وحماية المسحية فيها، لكنها في الواقع ساهمت في خرابها الكارثي بعد ما يقارب الست سنوات من القصف والتدمير الذي قامت به آلتها العسكرية، وطال معظم مناطق سوريا، وارتكبت حسب تقارير لجنة التحقيق الأممية المستقلة بشأن سوريا جرائم حرب فيها، إلى جانب مساعدتها نظام الأسد في ارتكاب مختلف أنواع الجرائم ضد السوريين، فضلاً عن الدفاع عنه وتزويده بالسلاح والعتاد لتعزيز حربه ضدهم.

ويحاول الساسة والعسكريون الروس الظهور بمظهر المنقذ للدولة السورية التي اختصروها بنظام الأسد، من أجل إخفاء الأسباب الحقيقية لتدخلهم العسكري في سوريا، لذلك راحوا يسوقون الذرائع والحجج الزائفة لتبريره، والتي ظنوا أنها تلقى قبولاً على المستويين العالمي والإقليمي وكذلك على مستوى الداخل الروسي، وتتمثل في محاربة الإرهاب، والعمل على التوصل إلى تسوية سياسية في سوريا، ومنع انهيار الدولة، وحماية الأقليات، وخاصة حماية المسيحيين السوريين، مع أنهم لم يطلبوا حماية أحد، ومثلهم مثل سائر المكونات السورية ليسوا كتلة واحدة، بل فئات وشرائح متعددة، وقف بعضها مع الثوة السورية وبعضها الآخر مع نظام الأسد، فيما بقي القسم الأعظم منهم حائراً وساكناً لا يقوم بفعل شيء لأسباب متعددة.

ولا شك في أن لافروف وسواه من الساسة الروس لا يخصون في كلامهم عامة المسيحيين في سوريا، إنما يركزون على المسيحيين الأرثوذوكس، وليس الروم الكاثوليك أو اللاتين والبروتستانت والكلدان والآشوريين والسريان الكاثوليك والأرمن الكاثوليك، وذلك للعزف على الوتر الطائفي، تماشياً وتناغماً مع بطاركة وقساوسة الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية، الذين روضهم النظام الروسي (البوتيني)، وتخلّوا عن مهامهم الأخلاقية والدينية، كي يتدخلوا في السياسة لصالح أجندته وتوجهاته، فراحوا يباركون الصواريخ الروسية المتجهة إلى قتل السوريين، وبلغوا درجة من الخنوع للنظام البوتيني دفعت بطريرك موسكو، كيريل الأول، إلى وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأنه "معجزة الرب والإصلاحي الذي أرسلته العناية الإلهية لإنقاذ البلاد".

ولعل إصرار الروس على إرسال إشارات عديدة لإظهار تركيزهم على أنهم جاؤوا إلى سوريا من أجل حماية المسيحيين الأرثوذوكس في سوريا، يفضي إلى تحميلهم وزر عمليات القتل التي قامت بها قواتهم، حيث سبق وأن برّر المتحدث الرسمي باسم قاعدة حميميم الروسية في سوريا، أليكسندر إيفانوف، القصف الهمجي المكثف للمقاتلات الجوية الروسية على مناطق المدنيين في إدلب وما حولها بالرد على "قصف مسيحيين أرثوذكس في مدينة محردة". وفي السياق الطائفي ذاته، قامت القوات الروسية في سوريا بتوثيق قتلاها الذين سقطوا في المعارك سوريا ضمن لائحة وضعتها على جدار كنيسة الصقيلية، بدلاً من وضعها في مبنى عسكري أو مركز إداري تابع للقوات الروسية التي باتت تمثل قوة احتلال في سوريا، وتملك فيها العديد من القواعد العسكرية، البحرية والبرية، فضلاً عن النقاط والمراكز العسكرية الأخرى. كما سبق وأن أعلن نائب مجلس الدوما الروسي، فيتالي ميلونوف، أن "المسيحيين الأرثوذكس في روسيا يمكنهم مساعدة مسيحيي سوريا في بناء نسخة طبق الأصل عن كنيسة آيا صوفيا"، وذلك رداً على تحويل الحكومة التركية متحف آيا صوفيا إلى مسجد.

لم ينقطع مسعى الساسة الروس عن إعطاء تدخل قواتهم العسكرية إلى جانب نظام الأسد بعداً دينياً وطائفياً

ويوظف الروس كل الإشارات الرخيصة والدنيئة التي يطلقونها في سوريا، من أجل تبرير ما يتعرض له غالبية السوريين من قتل وتهجير منذ أكثر من عشر سنوات، وذلك بناء على تصور زائف نهض على اللعب بورقة حماية الأقليات، وبُني على ما كان يُحتمل أن تتعرض له فيما لو سقط نظام الأسد بيد مجموعات متطرفة وإرهابية في سوريا. وبناء على هذا التصور المخادع جرى التعامي عن كل ما حل بالسوريين من ويلات وكوارث وجرائم ارتكبها تحالف الروس ونظام الأسد ونظام الملالي الإيراني بحقهم.

ولم ينقطع مسعى الساسة الروس عن إعطاء تدخل قواتهم العسكرية إلى جانب نظام الأسد بعداً دينياً وطائفياً، وتوظيفه لصالح أجندات ومصالح النظام البوتيني السياسية، من خلال إضفاء بعد رسالي مسيحي على سياساتهم وتوجهاتهم، وذلك كي يسهم في تأمين دعم عامة الشعب الروسي لها وحشدهم خلفها، مستفيدين من تأثير الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية عليهم، حيث شكل التدخل العسكري الروسي في سوريا فرصة لكي تنحاز هذه الكنيسة إلى سياسات النظام البوتيني، فسارعت إلى دعم قرار التدخل العسكري بعد أسبوعين من اتخاذه، ثم وصفت ما تقوم به آلة التدمير الروسية بالمعركة المقدسة. ولم تكلف الكنيسة الروسية نفسها عناء تحديد معنى ومبنى المعركة المقدسة في سوريا، التي أسفرت عن قتل مئات الآلاف من المدنيين السوريين وتشريد ملايين الأطفال والنساء والرجال.

واعتمد الساسة الروس في تعاملهم مع القضية السورية على ديماغوجيتهم وإتقانهم فن "البروباغندا"، حيث طبقوا بامتياز مقولة مدرسة "هنري أدامز" في الولايات المتحدة التي ترى أن "السياسة العملية تكمن في إنكار الحقائق"، فراحوا يزيفون الحقائق وينكرون الوقائع ويراوغون من أجل إفشال أي مسعى لإيجاد حل سياسي في سوريا عبر مسار جنيف الأممي، وقاموا بعقد تفاهمات مع الدول الخائضة في الدم السوري تصبّ في مصلحة نظام الأسد، ولم يوفرا جهداً من أجل الالتفاف على القرارات الأممية، والعمل على تمييع وتهميش المعارضة، وعلى إعادة تأهيل نظام الأسد، وفرض تسوية للوضع السوري على مقاسهم، كي يستثمروا فيها ما صرفوه عبر بوابات متعددة، وبما يضمن نفوذ بلادهم ومصالحهم قبل كل شيء.