ذاكرةُ الفرد والذاكرة السورية الوطنية أين تبدأ وأين تنتهي؟

2021.11.13 | 06:22 دمشق

syrian-refugees.jpeg
+A
حجم الخط
-A

سألتني جارتي الهولندية: ما الوطن؟ تحسّرتُ، وقلتُ: ذكرياتي مع أهلي وأصدقائي وأحبتي، سيرتي الذاتية! وهل تحنُّ إلى دمشق؟ دمعت عيناي: ذكرياتي فيها! وتابعتْ: ما الحبُّ؟ برقت عيناي وقلت: ذكرياتٌ دافئة، وطمأنينة، وتدفقٌ وتوثبٌ وحيويةٌ!

تشير دراسات علمية إلى أن كثيرا من البشر يقضون نسبة كبيرة من أعمارهم بين تأمّلِ ما مضى، وانتظار المستقبل والتخطيط له. وتعرَّف الذكريات بأنها الانطباعات المتبقية في القرص الصلب من ذاكرتك، مما مرّ معك من أحداث، وكلما ارتبطتْ بشيء تحبُّه، أو رحل أصحابُها، أو انبثقتْ عن عاطفة، أو اقترنتْ بمنجز صارت أغلى، وأكثر قدسية. وينبّه مختصون في علم النفس إلى أن الأحداث التي حدثت معنا، هي شيء يختلف عن ذكرياتنا عنها، وأنَّ ما نتذكره لاحقاً هي الطعوم المتبقية غالباً، وأن الدماغ لديه مناطق تفرز الأحاسيس الخاصة بكل ذكرى، وأن من المؤثرات في يومياتنا من حيث الإدراك والتعلم هي ذكرياتُنا، التي تُسمَّى تجارب!

ويُصَنّف البشر وفقاً لعلاقتهم بالذكريات: جماعة تمتلك ذاكرة حادة للأحداث السابقة، وجماعة مختصة بتذكر المؤلم في حياتها، وفريق معروف بقدرة عالية على تذكر آخر حدث مر معه: آخر حبّ وآخر سفرة وآخر قُبلة، وآخر لمسة، وهناك جماعة تختص بتذكر الحدث الأول: أولُ صفعة، وأول يوم في المدرسة، وأول حبيب اختفى عند أول منعطف، وما بين الأول والآخر تتسرَّب لحظاتنا!

الذاكرةُ الجمعيةُ هي الذكرياتُ المشتركات بين مجموعة من البشر، ينتمون إلى شريحة اجتماعية، أو جغرافيا، أو وطن، أو تاريخ، أو مهنة، أو مدينة، أو وجع

لعلّ من أكثر المفردات حضوراً في المعجم السوري، في العقد الأخير، هي مفردة "الذكريات" حتى إنك تشعر أنَّ أولئك البشر، الذين تلتقيهم هم مجموعة ذكريات متحركة. وفي حوار مع صديق مغترب، يحبُّ تأطير العالم بجُملٍ مختصرة، يقول: نحن ضحايا الذاكرة! ليست لدينا القدرة على الانطلاق نحو المستقبل، والتخفّف من الذكريات، مع أن البلاد التي نعيش فيها اليوم جميلة، ويتوافر فيها كلُّ ما لذ وطاب، غير أننا لم نبنِ فيها أو معها ذاكرة. كأن مرونة القدرة عند الأفراد على بناء ذاكرة جديدة تتراجع طرداً مع التقدم بالعمر!

وأحدُ أبرز الفروقات بين الغرب المعاصر، والشرق هو أن الغربيين يتفننون بعيش اللحظة الحاضرة، في حين نحن معشر الشرقيين تأكلنا الذكريات، أو الحياة المؤجلة! هم قناصو فرح الحاضر، ونحن ضحايا ذاكرةٍ أو انتظار لحظة مؤجلة قد تأتي أو لا تأتي، لأننا لا نملكُ قرارها وحدنا!

***

الذاكرةُ الجمعيةُ هي الذكرياتُ المشتركات بين مجموعة من البشر، ينتمون إلى شريحة اجتماعية، أو جغرافيا، أو وطن، أو تاريخ، أو مهنة، أو مدينة، أو وجع.

ويُشار مفاهيمياً إلى أنَّ اشتراك الشعوب برؤية متقاربة تجاه حدث، أو شخصية من ذاكرتها المشتركة، على أنه أحد الأجزاء الرئيسية للهوية الوطنية. لذلك يُقال في السياق السوري: إنَّ أحد أسباب عدم القدرة على إنتاج "هوية وطنية سورية" هو عدم الاتفاق على الذاكرة المشتركة الجامعة، الناجمة عن معرفة وشفافية، وليس عن تلفيق، كما حاول النظام السياسي في سوريا زراعته، عبر أكثر من سبعين عاماً.

 ولعلَّ من حسنات مراحل الثورات والنزاعات الأهلية، وفي الوقت نفسه سلبياتها ربما، أنها تفتحُ بوابات الأسئلة، وتنقّبُ في التفاصيل، وتضع "الذاكرة الجمعية" على المحك، بحيث توقظ ُ كل شريحة أو مدينة أو طائفة عوامل الاختلاف مع الآخر، وتستنفر الكراهية... وصولاً، في مرحلة وطنية لاحقة، إلى غربلة السلبي، والغفران، والتجاوز، وإعلاء شأن المشترك للبناء من جديد!

ما هي الذاكرة التي تجمع السوريين اليوم؟ وأيُّ ذاكرة وطنية يمكن أن نفعِّلها بيننا؟ وهل الأفضل إخفاء أوجاع الذاكرة السورية أم تشريحها وتفكيكها، لتفعيل القدرة على التجاوز والبناء المشترك لاحقاً؟

ما الذي يدفع الفرنسيين مثلاً إلى عدم الاعتذار عن جرائم قديمة ارتكبوها بحق الجزائريين، بعيداً عن الجانب الحقوقي؟ هل يخلو تاريخُ دولة أو جماعة بشرية أو دين من مثل هذه الآلام التي سببوها للآخرين؟ وهل من الضروري أن يكون بناء الحاضر متكئاً على ذاكرة مشتركة بين الشعوب؟ أم أن القدرة على بناء الدولة الحديثة بالضرورة يكون في القدرة على الاستجابة لمتطلبات الحاضر، والتخلص من الذكريات؟

انشغل النظام السياسي في سوريا، ولا يزال بتغييب الذاكرة السياسية والاجتماعية للسوريين، وكرس جهداً كبيراً لتلفيق ذاكرة جديدة تمجِّده، وتقدس وجوده، وأعطى فرصة شاسعة لمهتمين ملفقين غيّبوا جوانب مضيئة من التاريخ السوري لتكريس روايته للأحداث.

أذكرُ في سياق إنجاز كتاب عن "الأدب السوري خلال القرن العشرين" كيف كانت تمنع عن الباحثين في المكتبة الوطنية كتب كثيرة تتحدث عن التاريخ السوري المعاصر، وفي الوقت نفسه تمنح "بروباغندا" لباحثين ضعيفين علمياً، يلفقون وجهات نظر محددة في التاريخ السوري المعاصر! 

تحاول حكومات "السوريات السياسية الأربع" اليوم تدوين رؤية سورية إشكالية جديدة، كلّ من موقعه وفهمه، عبر المناهج الدراسية مثلاً، جوهرها تعزيز الكراهية والإلغاء، مركزة على التنافر بين السوريين، مع أن غليان "الحدث" السوري يكفي لكي يقبل كل منهم بالآخر، فيما لو كانوا يؤمنون بحقه بالوجود، وليس محاولة كل جهة جرّ "اللحاف" نحوها لتعرية الآخر وتسفيهه!

أهمُّ خطر يواجه محاولات تدوين الذاكرة السورية اليوم أحادية الرواية وتغييب المختلف، وفقدان المنهجيات العلمية البحثية، وعدم الاعتماد على المحترف والأكاديمي، ويخشى من الانشغال بالرد على إيديولوجية السوري الآخر، بإيديولوجية إلغائية مضادة، مع أنه من الحريّ بالمختصين الانشغال بتدوين مشتركات الذاكرة الجمعية، وهي ملكية للسوريين جميعاً، وليست لفريق على حساب فريق آخر.

كتابة التاريخ شأن مؤسساتي، وهو ما نجده اليوم خارج سوريا، عبر فرق تدوينية، وصحفية، وبحثية، ومعرفية، واستقصائية، وحقوقية، وسياسية، وإنسانية سورية، تنشط لتوثيق "ذاكرة سورية معاصرة، وحديثة"، يقودُ كثيراً منها مختصون، يحاولون صناعة آليات، واعتماد منهجيات، أقرب للموضوعية والشفافية، تلك مهمة جليلة، لا بد أن تعززها الإفادة من التجارب العالمية في تدوين الذاكرة وآلياتها. مع الإقرار، وفقاً لتجارب الشعوب الأخرى، بأنه من الصعب أن تنتج مراحل الصراع جهداً علمياً توثيقياً موضوعياً.

يثير بول ريكور في كتابه "الذاكرة التاريخ النسيان" فكرة تحويل الذاكرة إلى وسيلة بناء وتجاوز، وليس إلى عامل حقد

ولا تعفي تلك الجهود الجماعية الأفراد من تدوين ذكرياتهم وأحداثهم، في تقاطعها مع العام أو في انفصالها عنه، نحن معنيون جميعاً اليوم بحماية الذاكرة الشخصية، والعامة من النسيان، فالوجدان السوري والتحولات الشخصية يؤرخها الأفراد غالباً، وليس بالضرورة أن يكونوا كُتَّاباً كما هو شائع، المهم أن يلتقطوا تحولاتهم ويومياتهم، وأن لا ينسوا أن "البديري الحلاق" منهم! وألا يغيب عن بالهم أننا يمكن أن ندوِّن ذاكرتنا مع الآخر كذلك، دون أن نهاجم ذكرياته أو نغتصبها، أو نستفرد بها، وكأننا وحدنا مررنا من هنا!

يثير بول ريكور في كتابه "الذاكرة التاريخ النسيان" فكرة تحويل الذاكرة إلى وسيلة بناء وتجاوز، وليس إلى عامل حقد، ويفصِّل في كيفية تنمية القدرة على التجاوز، وبناء علاقات سليمة مع أشخاص أو دول أو شعوب، مشكلتهم الوحيدة معك هي مشكلة ذاكرة عتيقة، لستَ، أيها المعاصر، وليسوا طرفاً فيها.

قيل لصبية سورية: من أين تأتين بهذه القدرة العالية على النسيان؟ فأجابت: من كثرة خيبات الأمل التي يراكمها في أنفسنا الرجال!

وقيل لرجل: ما سرُّ سعادتك؟ فأجاب: من سلة المهملات الكبيرة، التي أضعها في رأسي، وأرحِّل إليها معظم ذكرياتي! 

شخصياً، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، عنونتُ مجموعتيْن قصصيتيْن لي بـ: صهيل الذكريات، وهمهمات ذاكرة! يبدو أنني كنتُ أتنبأ بأنني مستقبلاً سأكون أحد ضحايا الذاكرة؟ ما ذا قلتُ؟ كلمة "ضحايا" نعم، نعم! هذه الوسادة تقينا الفعل أحياناً، أو تخفّف الألم، أو تدفعنا للكتابة، نقاوم دور الضحية بالكتابة، وربما نقاوم الاحتراق بالذكريات عبر الكتابة، وربما نسكنُ إليها أحياناً!