جوازات سفرنا أوروبية لكننا لسنا أوروبيين!

2022.10.29 | 07:18 دمشق

جوازات سفرنا أوروبية لكننا لسنا أوروبيين!
+A
حجم الخط
-A

كلما عدتُ إلى هولندا، عبر مطار سخيبول بأمستردام، يفتح الشرطي المسؤول عن تدقيق جوازات السفر معي حديثاً، يطمئن علي. يسألني هل كنتُ في سفر عمل أم إجازة للاستمتاع؟ وأجيبه مع ابتسامة كبيرة. هذا جزءٌ من اللطف الهولندي المعروف، وغدا هذا السؤال موضع إشادة مني بنمط الشخصية الهولندية اللطيف وتعامل أجهزة الدولة مع مواطنيها.

أحد الزملاء نبهني إلى فكرة هل ينطبق "فتح الحديث" الذي يقوم به الموظف الهولندي على العائدين من سفرهم من ذوي البشرة البيضاء والشعر الأشقر؟

لم أنتبه إلى تلك الفكرة من قبل. ولما انتبهتُ إليها، تأكدتُ أن هدف ذلك الموظف اللطيف أن يتعرف إلي، وهل أتحدث الهولندية أم لا؟ من خلال الحديث معي، كمقدمة للتأكد هل أنا صاحب جواز السفر أم لا، مع أن أجهزة الكشف الشعاعية في المطار يمكنها أن تكشف ذلك. لاحقاً غدا اطمئنان الموظف يثير ألمي، بل بتُّ لا أردّ عليه. أكتفي بالتمعن فيه وأردّد مع ذاتي "الشطارة تخصصنا نحن السوريين لو أردنا تفعيلها في تصرفاتنا حتى لو حملنا جوازات سفر أخرى".

أتاح لي القانون الهولندي لاحقاً أنْ أقدِّم شكوى رسمية أثارت جدلاً طويلاً في أجهزة الدولة، حول "الشطارة هذه" لأن الهولنديين عادة لا يتبعون أسلوب الشطارة، ودور الموظف أن يقول لي بكل وضوح إنني أقوم بهذا الإجراء بتكليف من الجهة التي أعمل لديها، وبالتأكيد هذا يتطلب موافقتي أو عدمها، لأن القانون الهولندي يحدد هذه التفاصيل بدقة، ويحترم خصوصية المواطنين بحيث إن أي جهة تتقدم لسؤالك أو التواصل معك في أي أمر أن تعرف نفسها وتبرز وثيقتها ومهمتها المكلفة بها. ثمة منظمة مختصة بالوقوف ضد التصرفات العنصرية عدّت ما قام به الموظف جزءاً من تلك السلوكات، وتعمل على الموضوع بأبعاد أخرى.

البشر عامة ليسوا منتجاً؛ بحيث إنهم يدخلون كموادّ أولية من جهة بصفتهم لاجئين، ليخرجوا من الجهة الأخرى أوروبيين يحملون جوازات سفر أوروبية

في حوار مع عدد من المهتمين بهذه التفاصيل أكدوا أن نسبة من يقومون بتصرفات غير قانونية من غير الهولنديين الأصليين، أكثر بكثير ممن جذورهم هولندية، وأرجع المهتمون أولئك ذلك إلى تكوين الشخصية، والرغبة بالمغامرة، وكذلك مفهوم القانون والالتزام به، واختلاف المفاهيم الثقافية للقانون والدولة ومفاهيم المال وتكوين الشخصية، والاستقرار والتشتت بين ثقافتين وجنسيتين مختلفتين تماماً.

بالتأكيد البشر عامة ليسوا منتجاً؛ بحيث إنهم يدخلون كموادّ أولية من جهة بصفتهم لاجئين، ليخرجوا من الجهة الأخرى أوروبيين يحملون جوازات سفر أوروبية. لأنهم أبناء ثقافة وعادات وتقاليد كثيرة مختلفة، ومن الطبيعي أن يأخذ الإنسان وقتاً طويلاً في الاستجابة للتغيير أو إحداث التغيير، وهذا ما تحاول أن تلحظه سياسات اللجوء بخاصة إبان اشتغالها على الجيل الأول من اللاجئين ممن تقدموا بالعمر خاصة، وقد ثبت لديهم أنه مهما كان حجم جهود الاندماج كبيراً إلا أن نتائجه لن تكون كما يتمنون، لذلك باتوا يركزون على الأطفال أو مما يسمى الجيل الثاني من اللاجئين لأن إحداث الأثر فيهم أكثر جدوى، واستجابتهم كذلك. إضافة إلى أن ذاكرتهم الوجدانية والنفسية والتاريخية ليست ممتلئة كما هو الحال عند الجيل الأول ممن عاشوا طفولتهم وشبابهم في البلدان الأم.

في الحقوق والواجبات بتنا نحن اللاجئين ممن حصلوا على الجنسية الأوروبية مواطنين، لكننا لا نتحدث عن أنفسنا بصفتنا أوروبيين بل بصفتنا سوريين، نركض إن سمعنا أن مطعماً سورياً قد فتح أبوابه، ونفتخر إن سمعنا بمنجز لسوري في بلادنا الجديدة، ونخفض رؤوسنا إن قرأنا عن جريمة ارتكبها سوري. نعيش صراعات الانتماء في كل لحظة وأينما توجهنا، تلاحقنا الأسئلة السورية، ونتابع الوضع في سوريا أكثر من أوضاع البلدان الجديدة التي لديها أنظمة مستقرة، وتقاليد راسخة في العمل والحياة، وليست بحاجة لأفكارنا الإبداعية أو نقاشاتنا المسائية.

نتلقى الحياة في البلدان الجديدة بطريقة سورية، نحاول الالتصاق بتفاصيلها وأن نعيشها بكامل نكهتها، غير أن حواجز نفسية عالية تقف بيننا وبينها، نحاول أن نكسرها بالمعرفة تارة، أو بالالتصاق، أو بالنفور والانزواء أو بمحاولة تقليل دورها، ننتقل من حالة نفسية صعبة إلى حالة نفسية جديدة، يحركنا الحنين وبوصلتنا التشتت. تحول كثير منا إلى فلاسفة لكي لا يذهبوا إلى مشافي الأمراض النفسية في رغبتهم بالبحث عن الأجوبة لتلك الأسئلة الوجودية التي تحيط بنا أينما اتجهنا، ونحن الذين اعتدنا اليقين وامتلاك الحقيقة والتحديد الواضح للصح والخطأ، وقد غدا كل ما في العالم نسبياً، ننكفئ حول مشكلاتنا وأزماتنا بصفتها مركز العالم وما درينا أنها جزء من مشكلات العالم لكنها ليست الوحيدة.

 تمر أمامنا تحولات العالم ووداعه لآثار ما دعاه ذات يوم بالحرب على الإرهاب، مثلما انتهت من قبله مرحلة الحرب الباردة وسواها ليدخل إلى نفق جديد مختلف كلياً لا أحد يعرف مساراته أو مآلاته، فيه من الاستنزاف ومحاولة فرض السطوة ما فيه، وقد تبدى على المستوى الجماهيري عبر ارتفاع في أسعار المنتجات بنسب كبيرة جداً، دون الأخذ بعين الاعتبار أن الدخل لم يرتفع، فهل سيقود ذلك إلى أشكال اجتماعية جديدة؟ أو أنماط اقتصادية، أو تغير مفهوم الاكتفاء بعد مرحلة ركود كورونا، بحيث إن الشكوى من ارتفاع الأسعار قد وحّد البشر في كل مكان من هذه الدوامة.

هناك، في زاوية بعيدة من هذا المشهد العالمي المعاصر، مشاهد خيالية من التحالفات أو الاختلافات حول الطاقة، بحيث إنه بدا من الخيال مثلاً أن تبتعد دولة خليجية أو أكثر عن السياسات والمواقف الأميركية بل تتنافى معها، وتكتب صحافتها المقال تلو المقال عن بؤس السياسة الأميركية، فما الذي يحدث في العالم؟ وما الذي تغير؟ وما حجم مشكلتنا في مشهد مشكلات العالم المعاصرة؟

يبدو أن قدر الكثير من الأهداف النبيلة عبر التاريخ أن تبقى فكرة نتمسك بها، ونستضيء ونزرعها قيمة رمزية للاحقين

ليس مطلوباً منا أن نصبح أوروبيين إنْ حملنا جوازات أوروبية، لكن بالتأكيد مطلوب منا أن نتمثل القيم القانونية والإنسانية التي يحملها جوازنا الجديد، وأن نجري شيئاً من المثاقفة بين منظوماتنا القديمة وما تفرضه منظومات البلاد الجديدة، وفي الوقت عينه أن نعيد قراءة مشهد العالم ليس انطلاقاً من اعتقادنا بمركزية وجعنا وقضيتنا فيه فحسب، بل بالنظر إلى حالة العالم الذي انشغل عنا كلياً بمشكلاته الجديدة بعد الحرب الروسية الأميركية في أوكرانيا، وهي نوع من الحروب مختلف قليللاً عن الحروب المعتادة لأن طرفاً يخوض الحرب بنفسه في حين أن طرفاً آخر يعتمد على دولة وجغرافيا أخرى، بحيث تبقى اللقاءات السياسية متاحة بين مسؤولي البلدين فيما يبدو أن لا حرب بينهما. لكنها الحرب لغة واقتصاداً وأثراً وضحايا، ليست الحرب التي لا تذر أو تمنع اللقاء، غير أن التاريخ يقول إن بدايات الحروب ملامحها أوضح من نهاياتها، التي لا يعرف أحد متى تأتي وكيف؟ وهذا أكثر وضوحاً في الحرب التي تدور على الجغرافية الأوكرانية ومادام صنبور أحداثها مفتوحاً فإن مآلاتها غائمة، ومفتحوة على تفسيرات كثيرة لأنه لا أحد يعرف بالضبط ما المراد منها، أو ما مطلب كل طرف، وحتى هذه اللحظة لم يقل الطرف الروسي مثلاً ما حدود مراماته من تلك الحرب؟ ومتى تحقق أهدافها أو يمكن أن تنتهي؟ إنها حرب كسر العظم أو تغيير قواعد اللعبة العالمية، وهذا على العكس من مطالب الثورات التي تقوم ضد الأنظمة كحالة الثورة السورية 2011 التي يتمترس خطابها عند ناشطيها حتى الآن، خلف هدف مركزي هو إسقاط النظام وهو مطلب محق سياسياً وأخلاقياً، فيما يتساءل مراقب من بعيد: ماذا بقي من أدوات التنفيذ لمثل هذا الهدف النبيل ومن سينفذه وهل تتوفر الظروف الموضوعية للتنفيذ دون أن ننسى أن الآخر متمسك بكرسيه وسلطاته وحكمه دونه روحه وما يملك؟

يبدو أن قدر الكثير من الأهداف النبيلة عبر التاريخ أن تبقى فكرة نتمسك بها، ونستضيء ونزرعها قيمة رمزية للاحقين. ومن المؤكد أن انعطافات التاريخ ليست دائماً ملكاً للحسابات الواقعية وميزان ما لديك وما ليس لديك. دليلنا القريب على ذلك تلك التحولات التي حدثت في قرننا الحالي على المستوى السوري والإقليمي والدولي اقتصادياً واجتماعياً وتقنياً، وفيها من المنطق واللامنطق واللامعقول والتناقض والانتقال من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار الكثير الكثير الكثير.