اليوتيوبر السياسي السوري

2023.05.08 | 07:27 دمشق

شكاوى من "بطء" في يوتيوب.. وغوغل توضح
+A
حجم الخط
-A

في حين يتجه شبّان ويافعون إلى منصة "تيك توك" لينتجوا عليها مواد ترفيهية وفكاهية قصيرة، ينحو عدد متزايد، وإن ظل قليلاً، من الشيّاب إلى إنشاء قنوات لهم على "يوتيوب" يبثون من خلالها تعليقهم السياسي على الأحداث الراهنة.

العمر عامل شبه ضروري في شخصية اليوتيوبر السياسي السوري النموذجية لأنّ إحدى المهام التي أناطها بنفسه هي شرح خلفيات الأحداث لأجيال مفترضة من الجمهور لم تتح لها فرصة معايشة نشوء نظام الأسد والمحطات المفصلية فيه، مما قد أتيح، بالفعل أو بالادعاء، للمتكلم عبر الشاشة بسبب موقعه السابق في النظام أو المعارضة، والخبرة المفروض أنها تحصلت لديه نتيجة ذلك.

يميل يوتيوبرنا إلى الظهور اليومي، بدافع شهوة الكلام أو لنصائح تلقّاها حول تنشيط القناة وزيادة التفاعل. ولهذا يدمن الاضطرار على التعليق على الأخبار المتعلقة بالقضية السورية، متتبعاً الرائج/ الترند منها حتى لو كان إشاعة بصيغة "تسريبات"

يميل يوتيوبرنا إلى الظهور اليومي، بدافع شهوة الكلام أو لنصائح تلقّاها حول تنشيط القناة وزيادة التفاعل. ولهذا يدمن الاضطرار على التعليق على الأخبار المتعلقة بالقضية السورية، متتبعاً الرائج/ الترند منها حتى لو كان إشاعة بصيغة "تسريبات"، ملتفاً على ذلك بعبارة من نوع: "لو صحت الأخبار المتداولة عن...، فإن..." ويتابع طريقه نحو ما يتبع ذلك من تحليل لا يعدو كونه تنقلاً حراً بين الأفكار النمطية عن النظام والمعارضة والدول الفاعلة في سوريا.

لا يقدّم لمشاهده أي جديد عما سمعه من المعلّقين التلفزيونيين. مما يحمل اليوتيوبر على سلوك طريق أقصر نحو الإثارة، لا يُتاح بحرية لمن يظهرون رسمياً على شاشات مكرّسة، وهو زعم حصوله على "معلومات حصرية" من مصادر خاصة في القصر الجمهوري أو أماكن وازنة أخرى لصنع القرار في الداخل أو الخارج. وهنا تلعب شخصية ماهر الأسد، بالنظر إلى ندرة ظهوره وقلة الأخبار عنه، دوراً مركزياً في حياكة الشائعات عن صحته أو موقعه من الحكم أو خلافاته مع بعض رجاله أو تآمره لصالح إيران أو عليها، فضلاً عن مشكلات حواجز الفرقة الرابعة، والدور المنسوب إليها في تصنيع الكبتاغون وتهريبه.

كما نافست أسماء الأسد مؤخراً على محور الأسرار بسبب تصاعد نفوذها والغموض النسبي لفريقها الاقتصادي. بينما تبقى لأخبار "الاشتباكات في القرداحة" جاذبيتها المستمرة طالما ليس هناك مجال للتأكد منها أو نفيها. ومن الطبيعي أن تحتل هذه الكلمات؛ ماهر أو أسماء أو القرداحة، مكانها في عنوان البث للفت انتباه الجمهور.

يستفيد اليوتيوبر السياسي السوري هنا من غياب الرقابة بشكل كامل، ومن عدم مراجعة أي من مشاهديه له في صحة مزاعمه بعد مدة، ومن بحث متصفح اليوتيوب عن الإثارة بعد استهلاك المصادر المعتبرة.

غير أن الأمر لا يقف عند هذه الحدود، مع البث اليومي الذي يدفع صاحبه إلى أن يأتي بالجديد بصورة مستمرة، عن اجتماع عمّان أو لقاء الرياض أو زيارة الكرملين... إلخ، مما يحمله على التنقل بين كواليس يُحسد عليها لو كان الأمر كذلك بالفعل، أو اللجوء إلى الرجم بالغيب بلغة واثقة توحي بالمعرفة النهائية بكل شيء وفي كل مكان.

يتواضع يوتيوبرنا أحياناً فينزل من علياء مصادره السرية، الموزّعة بين قصر المهاجرين والبيت الأبيض، فيلجأ إلى "تعريف الشباب" بالسياق التاريخي للأحداث من واقع خبرته التي ربما تكون حياة متسكعة ومتنوعة بشكل لا يفيد أحداً، أو خدمة عسكرية عادية، أو منصباً حكومياً من درجة متوسطة. ولا تقصّر هذه الخبرات عن تزويد صاحبها بمعلومات مهمة فحسب، بل عن امتلاكه منظوراً لآليات عمل النظام ربما يفيد في التحليل لو غابت المعلومة. فلا منهج يقود خطى اليوتيوبر الذي يبدأ البث متى شاء، مستجيباً لوقت التبطّل الكبير الذي أتاحه المهجر، وربما يتقلب في حلقاته بين أدق درجات الموضوعية وبين خطاب كراهية طائفي أو قومي وفق مزاجه الآني أو ردة فعله على الحدث الذي يتناوله أو تعرضه للاستفزاز من بعض المعلّقين هنا أو هناك. وكل هذا مقبول وطبيعي لو لم يكن مساهماً في تشكيل الرأي العام، ولو حتى لبضع عشرات من الألوف من متابعيه.

نلاحظ أن قناة اليوتيوبر السياسي السوري مشروع استثماري من طرف واحد، يقع المشاهد فيه مرة بعد مرة، بدافع الملل أو أملاً في اكتشاف شيء جديد أو امتلاك بعض الرؤية وسط الضباب، فيما لا تبدو القناة أكثر من وسيلة لزيادة شهرة صاحبها ودعم مسيرته التي قد تطمح في تحوله إلى كاتب أو حتى باحث

يهتم يوتيوبرنا بملابسه وشكل ظهوره وخلفية الشاشة وراءه، وببعض تقنيات التصوير والصوت؛ غير أنه يسلّم نفسه لدور الحكواتي في المضمون. يندر أن يعرض مرجعاً أو يعدّ لحلقة بالمحتوى الذي تستحق. فإن فعل ذلك أحياناً كان السبب، في الغالب، دعم المؤامرة التي في رأسه بكتاب مترجم أو بمذكرات يؤولها كما يرغب.

وإذا عرّفنا المشاهدة على وسائل التواصل بأنها عقد عابر بين طرفين، يشارك أحدهما بجزء من وقته مقابل فائدة يقدّمها الثاني؛ ربما أمكننا أن نلاحظ أن قناة اليوتيوبر السياسي السوري مشروع استثماري من طرف واحد، يقع المشاهد فيه مرة بعد مرة، بدافع الملل أو أملاً في اكتشاف شيء جديد أو امتلاك بعض الرؤية وسط الضباب، فيما لا تبدو القناة أكثر من وسيلة لزيادة شهرة صاحبها ودعم مسيرته التي قد تطمح في تحوله إلى كاتب أو حتى باحث، بالاستناد إلى شبكة العلاقات التي تنشأ على مصالح ومجاملات متبادلة.

وكما يأمل المرء لسوريا بنظام أفضل، ومعارضة أفضل، وفصائل أفضل؛ فإنّه يتمنى لها مؤثرين وصنّاع رأي عام أكثر حرفية ومسؤولية، سواء كمنشئي محتوى حر على يوتيوب أو معلّقين سياسيين معتمدين أو كتّاب مقالات أو باحثين. وما لم تحصل نقلة تدريجية في مستوى ما تقدمه هذه المنابر سيستمر الانفضاض عنها ويتصاعد.