الممرات الإجبارية للمنطقة الآمنة واحتمالاتها

2022.06.13 | 06:45 دمشق

1204710062.jpg.0_0.jpg
+A
حجم الخط
-A

يشغل أميركا خنق وإسقاط بوتين؛ على الأقل اقتصادياً، إن تعذَّرت هزيمته عسكرياً. وفي سبيل تحقيق ذلك، لا يضير أميركا إضعاف أوروبا، وتكريسها حليفاً معتمِداً تابعاً لمخططاتها واستراتيجياتها، حتى لو تسبب ذلك بتناقضات وتوترات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، ورفع ميزانياتها العسكرية المساهمة في الناتو، الذي هدد ترامب يوماً بالانسحاب منه، تخويفاً لأوروبا.

في السياق ذاته، وكي تحقق أهدافها؛ تجعل أميركا من منطقة شرق المتوسط المسرح الرديف لإنجاز المهمة؛ حيث تركِّز على الحصول من تركيا، عضو الناتو، على مساهمة في حصار بوتين؛ فتمَّ تفعيل اتفاقية "مونترو"، وأُغلِقَت الممرات أمام سفن الروس. ولا زال الأميركيون يتطلعون إلى موقف تركي أوضح تجاه فعلة بوتين. تركيا من جانبها، تصرُّ على أخذ ثمن ذلك، مستغلة فرصة انشغال العالم بالقضية الأوكرانية؛ فها هي تعيد فتح ملف إقامة منطقة "أمنية" أو "آمنة" على الشريط الحدودي مع سوريا، لإزاحة خطر الـ "ب ك ك"، وتوفير حماية لما يقارب الأربعة ملايين من النازحين السوريين، كما تقول. وكي تمتّن موقفها تربطه بقبول عضوية السويد وفنلندا في الناتو، طالبةً إدانتهما للـ "ب ك ك"، ودعم أميركي وأوروبي لخطوتها.

تخرج على لسان مسؤولين أميركيين تصريحات لا تطمئن تركيا، رغم اقتراب الأخيرة من مجال التوتر العالي مع روسيا المأزومة. يحدث غزل عميق بين أميركا واليونان خصم تركيا التاريخي. يقف الأوروبيون في المنطقة الرمادية تجاه ما تريده تركيا، وخاصة أنهم وأميركا يجهزون لانضمام "السويد وفنلندا" لحلف الناتو. كعضو في الناتو تقدم تركيا شرطها أعلاه لقبول عضويتهما، وتبقي خطّها مفتوحاً مع الروس؛ فيزورها "لافروف" ويعطيها من طرف لسانه ما تشتهي.

يوازن الأوروبيون بين ما سيجنون أو يخسرون من كلا الخطوتين تفاضلياً؛ تزداد رمادية موقفهم؛ فانضمام الدولتين للناتو، دون تحقيق شرط تركيا، محفوف بالمخاطر. وإن أنجزت تركيا "منطقتها الآمنة"، فذلك لن يقدّم أو يؤخر بالنسبة لهم، رغم أنه قد "يكركب" معظم الحسابات في المنطقة، ويرفع الانضمام منسوب العداء مع روسيا؛ حيث يدعو الرئيس الفرنسي - إحدى الدول الأهم في الاتحاد الأوروبي والناتو- إلى عدم إذلال بوتين كثيرا؛ ومع ذلك تعلن فرنسا استعدادها للاشتراك بتحرير ميناء "أوديسا".

تجد إيران فرصتها الذهبية في مأزومية الجميع؛ فهي تتطلع إلى التمدد في سوريا. والانحسار الروسي من سوريا- رغم مخاطره عليها وعلى مَن تحميه في دمشق- يشكّل فرصتها لحضور وازن على الساحة السورية

روسيا، من جانبها، كانت غامضة تجاه خطوة "المنطقة الآمنة التركية"؛ فلا هي تريد خسارة حليف المصلحة الأهم في مفصل زمني يشهد إجماعاً شبه عالمي على خنقها، ولا هي تريد أن تقف الموقف المتطابق مع مَن يرأس مجموعة خنقها، أميركا؛ ولا تريد أن تُشْعِرَ "نظام الأسد" الذي تحميه بأنها تتخلى عنه، بغض النظر عن الخطوة التركية؛ ولا تريد أن تتناقض بشكل صارخ مع إيران التي عبّرت علناً على لسان الناطق باسم خارجيتها عن معارضتها الشديدة للخطوة التركية.

ما قد يحسم هذا الاستعصاء عند الجميع هو الموقف الإيراني، الذي أضحت معالمه شبه واضحة تجاه الخطوة التركية. تجد إيران فرصتها الذهبية في مأزومية الجميع؛ فهي تتطلع إلى التمدد في سوريا. والانحسار الروسي من سوريا- رغم مخاطره عليها وعلى مَن تحميه في دمشق- يشكّل فرصتها لحضور وازن على الساحة السورية؛ وهذا يستلزم مواجهة محتملة وربما حامية مع التوجه التركي؛ وقد يكون تأجيل أو إلغاء زيارة وزير خارجية إيران لتركيا إشارة على احتدام "طبخة" سياسية – عسكرية تستهدف إيران.

إذا كانت إيران تستطيع تحمل مواجهة خلّبية مع أميركا، عاشت عليها لعقود، وجنت حضوراً على الساحة الدولية، تحت يافطة "العداء مع أميركا"؛ إلا أن المواجهة مع تركيا، التي كانت المَنْفَذ عند اشتداد الخناق على الملالي، هو الذي لا يمكن أن تتحمّله؛ حيث سيكون حقيقيا لا إعلانيا أو إعلاميا خلّبيا؛ وهو الآن مطلوب كمخرج للمأزومين جميعا أعلاه. من جانب، يلتقي موقف إيراني محتمل من الخطة التركية في إيجاد "منطقة آمنة" مع الموقف الأميركي والأوروبي والروسي، ومع الــ ب ك ك، ومع حماية الملالي لمنظومة الاستبداد في دمشق، ومع تحقيق طموحاتهم التوسعية – وهؤلاء جميعاً يبحثون عمّن يواجه تركيا – ولكن هكذا مواجهة تُفقد إيران مجرى تنفسها الحقيقي وقت الحصار والشدة.

وبالعودة للموقف الأميركي، فقد بات معروفاً منذ تسعينيات القرن الماضي أن أميركا لا تستطيع الانفراد بموقف استراتيجي كهذا، ولا بد أن يكون إلى جانبها قوة تحالف وازنة، وأخرى لها وجود على الأرض. وبحكم عدم وجود أميركا الوازن على الأرض، وقلة انخراطها، والاعتماد على ميليشيات "قسد" كأداة هشة؛ لن يبقى أمام أميركا إلا إيران بحكم تطابق موقفيهما تجاه الخطوة التركية. وهذه مفارقة غريبة عجيبة في ظاهرها؛ ولكن محتملة في عالم يمشي على رأسه. فهل تفعلها أميركا؛ وما هو الثمن؟ وهل تفعلها إيران؛ وما هو الجنى، وما هي الكلفة؟

قد تكون إدانة الوكالة الدولية للطاقة النووية من باب الضغط، وقد تكون أول غيث المحاسبة لملالي طهران؛ وربما الخطوة التركية ستعيد الحسابات والاصطفافات

مؤكد أن أميركا تتمنى ذلك، لأنه سيحقق لها ضرب عدد وازن من الجوارح السامّة بحجر واحد. وهي مستعدة لتقديم المغريات: ضغط على السويد وفنلندا بتلبية شرط تركيا، وإشاحة الطرف عن خطة تركية في منطقة آمنة، (وتصريح الخارجية الأميركية الأخير بأن "… الأتراك لن يتراجعوا") هو الضوء الأخضر؛ ورفع الغطاء عن الــ ب ك ك؛ وصولاً حتى لتشغيل "الخط الساخن" الخفي بينها وبين إيران، وإرسال شيفرات معاكسة تماماً للمُعْلَن، وإغراءات تجاه مشروعها.

من جانبها، روسيا تتمنى اشتعال اللهيب في منطقة أخرى تزيح الأنظار عن فعلتها في أوكرانيا، ولو قليلا؛ وتدير ظهرها لعلاقة مشبوهة مع إيران، وتعزز العلاقة الأهم مع تركيا، التي لا يمكن في هذا الظرف احتمال صراع معها. كل ذلك ممكن؛ إلا أن الملالي لن يدخلوا هذا النفق القاتل. قد تكون إدانة الوكالة الدولية للطاقة النووية من باب الضغط، وقد تكون أول غيث المحاسبة لملالي طهران؛ وربما الخطوة التركية ستعيد الحسابات والاصطفافات.

وتبقى التبعات- كيفما كانت- تحريكاً نوعياً للقضية السورية. فهل سيتم تدمير الهيكل القديم - المتجدد. في المحصّلة، عندما يكون مصير روسيا على المحك، لا قيمة لإيران أو لمنظومة الأسد عند روسيا، مقارنة بتركيا. ها هي رياح تركيا تهب، والخطوط تتقاطع عندها، لتكون أقوى المأزومين. هل هو انفراج لتركيا، وبداية خلاص لسوريا وأهلها؟ يبقى السؤال مفتوحا.