المعارضة السورية ونظرية التعويم الزيتي

2021.03.12 | 05:33 دمشق

18766521-079b-47bb-b337-70a1679d66b2.jpg
+A
حجم الخط
-A

في البدء كانت الثورة، وكانت لها أولوية واحدة يتيمة، وهي إسقاط نظام الأسد.

وعلى هذه الأولوية تمركزت الإرادات بشكلٍ عفوي، وكانت المؤسسة الأولى للمعارضة "المجلس الوطني" والتي حازت في الأشهر الأولى على دعم الشارع الثوري، وقبوله لها كممثل وحيد للثورة، وهذا لأن المجلس الوطني كان بالفعل ممثلاً لصوت الجماهير الثائرة، وخطابه متطابق إلى حد كبير مع خطابها، وأحياناً بشكلٍ حرفي، فعلى سبيل المثال الشعار الشعبي البسيط والذي أراد أن يقطع الطريق على أولى محاولات التفتيت كان "واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد" كرره بحرفيته وعبر كبرى المنصات الإعلامية المتحدثون الرسميون للمجلس الوطني وغيرهم، وحظي يومها بقبول واسع وأصبح شعارنا الجامع.

في تلك الأيام العزيزة علينا كسوريين معارضين ننشد الحرية ونراها مرتبطة بشكلٍ حتمي بسقوط الديكتاتورية وأعوانها، لم نكن نجد فرقاً إن تولى رئاسة المجلس سني أو علوي أو إسلامي أو علماني.

لم يكن أحد ليتجرأ في تلك البدايات لينافح أو يجادل على حصته أو عدد الأفراد الذين يمثلون تياره السياسي في هذه المجموعة أو تلك.

ويومها سارت الوقائع بذلك الزخم الشعبي وحده، فترنح النظام وتراجعت سيطرته على الأرض السورية وانحسر إلى ثلث الأراضي السورية التي أصبح يروج لها فيما بعد باسم سوريا المفيدة، وما ذلك إلا ليبرر هزيمته ويعلل من يواليه بأنه استطاع الحفاظ على الشطر الأهم من سوريا.

عام "1967" إبان حرب حزيران التي خرجت منها إسرائيل منتصرة وقد قضمت سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان، كانت السياسة الاستراتيجية السورية قد خرجت بفكرة ألمعية سمَّوها يومئذٍ "التعويم الزيتي" ومفادها أن يترك المجال لإسرائيل فتتوغل في الأراضي السورية إلى عمقٍ متقدم، لا تستطيع معه السيطرة على مكتسباتها، فيسهل تمييعها والقضاء عليها، وتضيع في المحيط العربي كما تضيع قطرة الزيت، لو نشرناها على مسطحٍ مائيٍّ متسع.

لم يكن أحد ليتجرأ في تلك البدايات لينافح أو يجادل على حصته أو عدد الأفراد الذين يمثلون تياره السياسي في هذه المجموعة أو تلك

غاب عن هذا التفكير الاستراتيجي أن إسرائيل كدولةٍ معتديةٍ، تحارب في محيطٍ عربيٍ واسع، ملزمةٌ بحكم الضرورة، بالتدقيق في حساباتها وخياراتها، وبدراسة خطواتها بشكلٍ تفصيلي، لم يعتد الساسة العرب المرتجلون الإتيان بمثله، فتقدمت قواتها في الحيز المفتوح، بالقدر المناسب لموازين القوة التي تعرفها، وتوقفت عند هذا الحد، وما إن تحطمت النظرية على صخرة الواقع، حتى سارعت القيادة البعثية إلى ابتكار نظرية أكثر جدة، وهي أن إسرائيل خاضت تلك الحرب لهدفٍ وحيد، وهو إجهاض الثورة، وطالما أن الثورة باقية فقد خسرت إسرائيل رهانها الوحيد، وعادت تجر أذيال خيبتها ومعها آلاف الكيلومترات من الأراضي العربية التي استولت عليها في لحظة غضبها.

أتى هذا بالضبط مشابهاً للفشل الذريع، الذي منيت به قطاعات واسعة من المعارضة السورية، وفي مقدمتها الهيئات التمثيلية الكبرى، فبعد أن باتت المعارضة بمجملها تسيطر على ثلثي الأرض السورية، بالرغم من كل القوى "الروسية والإيرانية وحزب الله" التي كانت تحارب بالنيابة عن نظام الأسد المتمزق، والذي لم يعد يملك موارد ولا كوادر، يدير بها ما تبقى له من الأرض السورية المفيدة كما دعاها، توزعت قوى المعارضة السورية بطريقة التعويم الزيتي ذاتها، ولم تعد قادرة على إدارة المساحات التي حررتها من نظام الأسد، لتهيمن عليها فصائل مسلحة لا تملك حرفاً واحداً من أبجدية الإدارة، وبتعبير أكثر دقة لا تصلح لإدارة مؤسسة إغاثية توزع الخبز والطحين وحسب، فما بالنا بإدارة المعابر ونظام الرسوم الجمركية، وضبط الأمن والقضاء بين الناس، وغيره كثير كثير مما هو مطلوب، ممن سيطر على مدن أو بلدات ورفع فوقها علم الثورة، ويبدو أن النظرية البعثية البائسة "نظرية التعويم الزيتي" التي فشلت في الحرب مع إسرائيل، نجحت في الحرب مع المعارضة السورية.

والواقع أنَّ ما جرى، هو تحرير مدن سورية من بقايا نظام الأسد الفاسدة، والسيطرة عليها من قبل مجموعات كانت بفعل جهلها وعدم تأهيلها، تنافس الأسد على إدارة الفساد.

لسوء التدبير وفقر الحال، لم يكن هناك بديل عن النظام في المناطق التي خرجت عن سيطرته، سوى مجموعات لا حصر لها مثَّل كثيرا منها نمطاً من أنماط إدارة الفساد والتجارب الفاشلة، كان من نتائجها تصريح كثيرين ممن ناصروا الثورة في البدء، برغبتهم في العودة إلى حكم نظام الأسد، رغم معرفتهم التامة بمدى فساده وضلوعه في الإجرام.

واليوم وبعد عشر سنوات من انطلاقة الثورة، لم يبق المشهد على ما هو عليه وحسب، بل انحط إلى ما هو دون ذلك، فأصبح ذلك الفساد وغياب الكفاءات أو تنحيتها عمداً، والذي سمحت الفوضى بولادته يومها، أكثر تنظيما وأشد تمكناً، وصار السؤال الصعب والشديد الإيلام هل تستحق هذه الثورة وما بذل فيها من دماء وتضحيات هذه القيادات الفاشلة والبائسة؟ وهل سيتسع الوقت للتخلص من هذه النماذج الثورية التي أصبحت عبئاً على الثورة ذاتها، وعقبة في طريق تقدمها أو تصحيح مسارها، أم أننا مقبلون على أشكال جديدة من الثورات الداخلية والخارجية معاً؟