المتلازمة الصينية: سوريات عدا عليهن الذئب

2021.04.24 | 06:09 دمشق

1020028060_0_107_1024_660_1000x541_80_0_0_55ac17e8a0baed0b321346fe05a49f9f.jpg
+A
حجم الخط
-A

كنت أجدُ مشقّة في فقه سلوك إحدى شخصيتيّ هذه القصة التي وردت في حديث شريف، وتقول: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى. فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه. فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما. فقالت الصغرى: لا، يرحمك الله: هو ابنها، فقضى به للصغرى". يقول القرآن الكريم "ففهمناها سليمان وكلًّا آتينا حكمًا وعلمًا" لكن المثل يقول: ليست النائحة كالثكلى، وقد عجب أبو هريرة من لفظة في القصة، قال أبو هريرة: "والله إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ ما كنا نقول إلا المدية"، أما أنا فتعجبتُ من أمر آخر، وهو أنَّ الثكلى التي فقدت وليدها لم تبكه، ولم ترثِه، وسعتْ إلى وليد ابن الأخرى، وما وعيتُ القصة، إلى أن دارت بي الأيام، ورأيت هذه الواقعة:

كان ثلاثة عرسان سوريون ينتظرون عرائسهم ، بدلاتهم السوداء تشي بذلك، وشعورهم المصففة بعناية كذلك

كنت انتظر في مطار فرانكفورت ابني، الانتظار في المطار مؤنس، فالمنتظر يستمتع بمظاهر المسافرين والعائدين، وبصوت المذيعة اللطيف، ويسلو عن تباريح الشوق. المطار مكان تخفُّ فيه غوائل العنصرية لأنه معبر، وترى فيه عمائم السيخ وجدائل اليهود وبراقع المسلمات، ثمة صبيّة أوروبية شقراء تحمل حقيبة على ظهرها دمية دب كبير في حضنها، الدب بحجم طفل مفطوم، وتضمّه بحنان كبير إلى صدرها، وتمضي إلى طائرتها غير حافلة بأحد، مضيفات جميلات بثيابهن الموحّدة باسمات بنزولهن إلى الأرض من السماء، يجررن حقائبهن ذوات العجلات إلى فنادق الاستراحة، المضيفات جميلات كلهن، منتخبات بعناية حتى يذكرننا بأمنا الأرض التي جعلها الله لنا سكنا وقرارا، ونغفل عن مغامرة الطيران بأجنحة الحديد.

كان ثلاثة عرسان سوريون ينتظرون عرائسهم ، بدلاتهم السوداء تشي بذلك، وشعورهم المصففة بعناية كذلك، وكان مع أحدهم فرقة موسيقية صغيرة، ويرافق الثاني ألمان، قدّرت أنهم جيرانه وأصحابه، وقد جاؤوا لمؤازرته في  حفلة الاستقبال، الطائرة التي حملت العرائس حطت أخيراً في العش، فتربصنا بمنفذ الخروج كما كنا ننتظر على باب الفرن الأرغفة الشهية، ظهرت صبية تدفع عربة، ملامحها سورية، وثب إليها أحد العرسان المنتظرين، وخاطبها، وتبيّن له أنها ليست عروسه، عندما سألها عن كلمة السرّ، الآخران يتفحصان الواصلين بعيون المحققين، قفز العريس الثاني، وقدّم نفسه إليها، لكن لم تكن عروس الثاني أيضاً، بل لم تكن عروسًا.

ثم ظهرت صبية ثانية، ناداها العريس الأول، فلم تجبه، فوثب إليها الثاني وناداها باسمها، فابتسمت، فعانقها، علت الزغاريد، ودقّت فرقة الثالث على الطبول فرحًا بعروس زميله، وفرح المستقبلون الألمان بالزغاريد العربية التي لم يسمعوا مثلها قط. بعد دقائق ظهرت العروس الثانية، ووجدت عريسها، وطال العناق بينهما، لكن العروس الثالثة تأخرت، والعريس ينتظرها ببدلته السوداء وباقة الورد الحمراء حتى كادت الفرقة أن تعزف لحن الوداع، تقدّم إلى صبيّة عسى أن تكون عروسه، لكن الصبيّة تابعت سيرها، فتقهقر خائبا.

 لقد انتظر كل واحد من هؤلاء عروسَه بضع سنين، وترجموا أوراقاً كثيرة، وسافرت كل عروس إلى عاصمة مجاورة، إما إلى عمّان أو بيروت أو كليهما لإجراء فحص اللغة مرّة، والتأشيرة مرّة، وأغلب الظن أن العرسان لم يحادثوا خطيباتهم إلا عن بعد، وقد شُبّه على العرسان والتبست عليهم عرائسهم، لسبب أول هو الشوق، وسبب ثان هو أنَّ "الحب أعمى"، وثالث: أنهن كلهن جميلات، وقد عدا على العرسان ذئب الشوق فاختلط عليهم الأمر، وسبب رابع نذكره في الخاتمة.

نثر أحدهم باقة الورد فوق رأس عروسه فرحًا بها، فبعد شهر لن تجد أحدهم يحمل وردا، وستحلّ باقة البقدونس محلها

 السوريون يفضلون الزواج من سوريات، "نِساءُ الشام خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ المخاطر وشكلن الآس، أَحْنَاهُ على طِفْلٍ وأَرْعاهُ على زَوْجٍ في ذاتِ يَدِهِ".

الكورونا جعل الأمر أشق، فالمنتظرون ملثّمون خوفًا من فيروس كورونا، الذي يشاع أنه يفتك بغير الملثّمين، فكورونا أعمى مثل الحب، والعروستان ملثّمتان أيضاً، وهذا يجعل امتحان الشوق أشدّ. فحص المنتظرون العرائس، وكشفن عن براقعهن الصحيّة كشفًا سريعًا، فالشرطة الألمانية "الوهابية" تراقب الكمامات وتعاقب سفرة الوجوه. أشرقت الشمس وعلت الزغاريد، والتُقطت الصور التذكارية، ونثر أحدهم باقة الورد فوق رأس عروسه فرحًا بها، فبعد شهر لن تجد أحدهم يحمل وردا، وستحلّ باقة البقدونس محلها، قد يحمل كيس رز الوردة الحمراء، وتوقعتُ أن يستحدث العرسان السوريون طريقة لمعرفة العروس بكلمة سرٍّ أو راية، كما في الحروب بين الجنود في الثكنات، السبب الرابع قاله زهير صاحب المعلقة: "ومن يغترب يحسب عدوًا صديقه"، وأقول: ومن يغترب يحسب كل غريب نسيبه أيضًا.

 أخطأت أيضا في ابني وهجمت على شاب انبثق من فتحة الباب فتراجعت معتذرا بعد أن تبين لي الهدى. الصبية الأوروبية الشقراء التي تضم دبا كبيرا من الصوف على صدرها تعويضا عن حبيب مفقود، كانت ما تزال تشق طريقها بين شمل الأشواق وخفق الفؤاد.